«ارفع حاجبيك يا أخى».. يبدو أن هذه الكلمات ستصبح شعار المرحلة التى نعيشها بسبب ما تحمله أيامنا من أحداث، فهى فى النهاية دعوة للاندهاش مما يجرى لنا أو فينا -مش مهم- من بعض المسئولين! غير أنك من البداية أمامك حرية الاختيار، إما أن تعتقد أنك تقرأ «قصة أليس فى بلاد العجائب»، وإما أن تتأكد من أنك تعيش واقعاً ملموساً فى مصر وعليك أن تتعايش معه رضاء أو قسراً!
ويبدو أن الدكتور أحمد عماد الدين راضى، وزير الصحة، ليس وحده الذى خرج من بوابات القصر الجمهورى قبل نحو 3 سنوات بعد أن أدى اليمين الدستورية وزيراً للصحة ولم يعد منذ وقتها، إذ إن هناك 6 محافظين للسويس و10 وزراء للتنمية الإدارية، ومثلهم للصحة، إما أنهم كانوا على مدى الـ18 عاماً الماضية يخرجون من منازلهم صباحاً ليستقروا على «الكوفى شوب» دون أن يذهبوا إلى مواقع عملهم، وإما أنهم كانوا يعانون من «الغيبوبة»!
وكأن كل ما يتحملونه من هموم لا يكفيه.. أو أن كل ما يبذلونه من جهد لا يرضيه.. وما يصيبهم من إرهاق وتوتر لا يؤثر فيه.. فهو أبداً لا يرقّ قلبه عليهم، بل على العكس يزداد عناداً ومعصية ويعلن تمرده عليهم فى كل مرة!!
ما أتحدث عنه هنا هو هؤلاء الوزراء والمحافظون وذلك «العفريت» الذى يحلو له مطاردتهم فى كل مبنى جديد يقيمونه فـ«يسكنه»، ولا يكتفى بذلك، بل يسعى لعمل «عكوسات» لهم ليفرّق بينهم وبين مبانيهم الجديدة مثلما يفرّق بين «عيد العجلاتى» وزينات زوجته!!
آخر ما أقدم عليه هذا «العفريت» هو تلك «العكوسات» التى نجح تماماً بواسطتها فى إخفاء «مركز طبى» منشأ منذ 18 عاماً على مساحة 1230 متراً مربعاً بمنحة من دولة اليابان خلال عام 2001 ولم يدخل الخدمة حتى الآن رغم موقعه المتميز وإمكان تحويله لمركز إقليمى طبى يعالج مواطنى محافظات محور القناة وسيناء أو تحويله إلى مستشفى للطوارئ والحوادث يستفيد منه عمال الشركات والمشروعات والمصانع الموجودة هناك، بالإضافة إلى خدمة مناطق «الأدبية والأتكة والسماد» كأقرب مستشفى بدلاً من الذهاب إلى مستشفى التأمين الصحى بالسويس باعتباره مستشفى الإحالة الوحيدة هناك رغم الضغط عليه لاستقبال المصابين من جرّاء الحوادث بشكل يومى، لا سيما بطريق السخنة!
بداية القصة -وفق ما نشرته جريدة «الوطن» فى صفحتها الثالثة يوم الأحد الماضى، والتى كتبها الزميل الشاب محمد مقلد- تبدأ عندما كان اللواء أحمد محمد حامد، محافظ السويس «الحالى»، يزور منطقة السخنة، وبالصدفة لمحت عيناه هذا المبنى الضخم الموجود على الطريق، فاستفسر عنه، ففوجئ بأنه ذلك «الصرح الطبى»، غير أن الأتربة وعوامل الطقس المتقلبة طوال هذه الأعوام رسمت عليه ملامح تشهد بتفنن الأجهزة التنفيذية المتعاقبة فى محافظة السويس فى إهدار المال العام، فيما كان وزراء الإدارة المحلية الذين تتبعهم المحافظة ووزراء الصحة المفترض فيهم متابعة أى مبنى، وبخاصة «صرح طبى» فى أى محافظة، يتسامرون فى «الكوفى شوب»!!
وعلى الفور قرر محافظ السويس تفقُّد المركز الطبى، ففوجئ بأنه منشأ على أحدث طراز وجميع المرافق موصلة له، وتوجد به أجهزة تكييف فقرر أن يستفيد منه وتحويله لمستشفى طوارئ يساعد فى علاج المرضى والمصابين من جرّاء الحوادث.
وطلب اللواء أحمد حامد من مسئولى جهاز تنمية شمال خليج السويس ومديرية الصحة والسكان إعداد دراسة ومخطط عام عن هذا المركز الطبى، والتنسيق السريع بين وزارتَى الإسكان والصحة لرفع كفاءته وتجهيزه بالمعدات والأجهزة الطبية المطلوبة، «ونرجو ألا تطول هذه الدراسة لـ18 عاماً أخرى»!
عموماً فإن حكايات «عفريت المبانى الحكومية» قديمة، إذ ترجع إلى النصف الثانى من العقد الأول للألفية الثانية، وتحديداً فى عام 2006، إذ حاول ذلك «العفريت» التفرقة بين وزير الزراعة وقتها أمين أباظة ومبنى بنك التنمية والائتمان الزراعى الموجود حالياً بمنطقة الدقى، إذ اكتشف المسئولون بالوزارة وبالبنك بعد إقامة المبنى الجديد وقتها وتشطيبه تشطيب «سوبر لوكس7 نجوم وأستك كمان» بتكلفة 130 مليوناً من الجنيهات أنهم فى غير حاجة إليه وأنهم لن ينتقلوا من مقر بنكهم القديم الكائن فى أول شارع قصر العينى بالقاهرة باعتبار أن «من فات قديمه تاه»!!
ولنكن حسنى النية ولا يتطرق إلى أذهاننا أى شك فى أن وراء قرار المسئولين بالبنك بناء مقر جديد «لا يحتاجونه من الأساس» مسائل تتعلق بإعداد كراسة شروط البناء.. وطرح المناقصة.. وفتح المظاريف.. وإسناد المقاولة لشركة بناء.. و«تفتيح المخ وأمور السيكو سيكو»!!
وأمام سدّة نفس المسئولين بالبنك عن مقرهم الجديد دون أن يعرفوا أن وراء ذلك «عكوسات عم العفريت» لم يجد الدكتور أحمد نظيف، رئيس الوزراء وقتها، حلاً للتخلص من المقر الجديد سوى تكليف وزير المالية بدراسة بيع المبنى أو تأجيره بعد أن رقّ «قلب العفريت» فى النهاية على حال الدولة وأبقى على المبنى، ونحمد الله على أن الدكتور «نظيف» قد اهتدى إلى هذا الحل دون أن يقرر هدمه مثلما فعل بجراج رمسيس الشهير!!
لا أدرى أى حل يصلح مع هذا «العفريت» الذى يظل متربصاً للحكومة ليسكن أى مبنى جديد تقيمه ويتفنن فى إحداث مثل هذه «العكوسات»، غير أننى أعتقد أنه ليس أمام الحكومة، لتهنأ بمبانيها الجديدة وتعيش فى تبات ونبات، سوى «تبخير» أى مبنى جديد بعد مسح سلالمه بـ«غُسل ميت».. أو أن تفعل ما يفعله بعض أهالى «المرضى النفسيين» بكتابة اسم ابنهم وعنوان سكنهم ورقم تليفونهم على ملابسه وتلصق هذه المعلومات على «واجهة المبنى»، فربما يبلغ عنه من يجده هائماً على وجهه فى الطريق!.. ولنا الله.