لا أعرف متى بالتحديد هجر طلبة الثانوية العامة مدارسهم، ومتى جرؤت إلى حد الفُجر مراكز الدروس الخصوصية على التمدد إلى مواعيد الدراسة لتصمم جداول الدروس لتبدأ فى التاسعة أو العاشرة صباحاً، وأصبح النقاش فى هذا الأمر مع المدارس أو أولياء الأمور حرثاً فى البحر، فالجميع غير راضٍ، لكن الجميع يرى أنها طبائع الأمور، واتسعت دائرة الفساد: مدارس تحصّل المصروفات الدراسية ولا تقدم أى خدمة تعليمية، أولياء أمور يدفعون المصروفات كاملة بما فيها الأنشطة والكتب المدرسية دون الاستفادة بأى شىء، يدفعونها على سبيل «الإتاوة» حتى تسجل المدرسة استمارة الطالب فى الثانوية العامة، ويتجرّع الأهالى مرارة الضغط الهائل وحالة الطوارئ فى البيت، وفوق ذلك مبالغ طائلة لمراكز الدروس التى أصبحت تعامل الأهالى بإذلال، فقواعد مراكز الدروس:
أولاً: لا بد من الحجز فى الصيف وإلا سيُحرم الطالب من جنة عبقرى الكيمياء أو فلتة زمانه فى التاريخ أو إمبراطور الرياضيات.
ثانياً، إذا غاب الطالب حصة سيتم إبلاغ الأهل والتنبيه، أما إذا جرؤ على غياب حصتين فالفصل واجب والخروج من جنة السنتر حتمى لأن قائمة الانتظار لطلاب آخرين طويلة لمن فاته قطار حجز الصيف.
ثالثاً: لا تتمتع مراكز الدروس بأى قواعد تربوية أو إنسانية، المقاعد خشبية مؤذية للطالب، الزحام خانق، لا توجد أى اشتراطات سلامة من أى نوع، فإذا حدث مكروه سيكون الضحايا بالعشرات، وعلى الأهالى الانصياع وعدم المناقشة.
رابعاً: كل المراكز غير قانونية ومعروفة فى المنطقة ولا يجرؤ أحد على الاقتراب.
ما هذا العبث؟ أى تعليم وأى قيم نعلمها لأولادنا، دعونا نذكر بعض الدروس التى يتعلمها الطلاب:
- المغفل هو من يحترم النظام، الأصل هو التلاعب بالنظام.
- القوة والعلاقات فوق القانون، فالفاسد الذى يملك القوة والعلاقات خير من الشريف، فالمراكز أشهر من أهرامات الجيزة ولم يغلقها أحد.
- السرقة لطيفة، فالمدرسة التى تأخذ المصروفات الدراسية دون تقديم خدمة لصوص لكنهم مقدَّرون اجتماعياً ولم يرفض أحد سرقتهم.
أنا لا أتحدث عن اتهام طرف، سواء الوزارة أو المدارس أو الأهالى، لأن المسئولية مشتركة بين الجميع، لكن الواقع أننا تجاهلنا دور المدرسة إلى الحد الذى حدث فيه فقدان جماعى للذاكرة، فدور المدرسة ليس الدروس والدرجات وفقط حتى تحل محلها منظومة مراكز الدروس. دور المدرسة تقديم الرعاية الاجتماعية والنفسية للطلاب، تعليم الطلاب التفكير العلمى واكتساب عادات صحية وإنسانية جيدة أهمها التفاعل مع الطلاب الآخرين والمدرسين، ضبط السلوك وتدريبهم على العمل مع مجموعات ليتعلموا التحكم فى الانفعالات، اكتشاف المواهب وتنميتها والاهتمام بالجانب الترفيهى حتى لا يتحول الطلاب إلى ماكينات حفظ وتفريغ فارغى العقل قساة القلوب غير قادرين على التواصل الإنسانى.
أى إن دور المدرسة هو التركيز على الطلاب، وهو أهم من التركيز على المنهج، مع إعلان شهادة المدرسة تحولت أجيال كاملة إلى ماكينات حفظ وترجيع باهتة، فلاشة كمبيوتر صغيرة السعة تحمل معلومات أكثر تنوعاً وفائدة، جيل اختلطت لديه كل القيم لنرى عاملين ومديرين أحياناً بلا عقل ولا منطق ولا تفكير منهجى ولا حتى منظومة قيم، ونندهش لماذا حدث تردّى الأخلاق وتراجُع الكفاءة وزيادة العنف فى المجتمع! مع الموت السريرى للثانونية هرب بعض الأهالى إلى مدارس الشهادات الدولية التى تعطى اعتباراً ودرجات للحضور بالمدارس، فوقع الجميع فى فخ ابتزاز واستغلال هذه المدارس ما بين مصاريف مبالغ فيها وتزيد زيادات غير منطقية وبين تحكمات غير مفهومة، ومع الندرة لا يمكلك الأهالى إلا الانصياع.
كل هذا العبث بدأ ينتقل إلى الشهادة الإعدادية، فكثير من المدارس تعطى تسهيلات للغياب، والدروس تتمدد بسرعة كبيرة كالسرطان، فهل سننتظر حتى تستشرى العدوى ونلغى المدارس كلياً؟ ربنا يستر.