فى عام 2016، قضت محكمة مصرية بالسجن ثلاث سنوات على الكاتبة فاطمة ناعوت، بعدما أدانتها بتهمة «ازدراء الأديان»، بسبب «تدوينة» لها على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، بثتها قبل ذلك التاريخ بسنتين.
كل ما فعلته «ناعوت» آنذاك أنها انتقدت شعيرة ذبح الأضحية، التى يحرص عليها المسلمون فى عيد الأضحى، قائلة: «كل مذبحة وأنتم بخير»، ما استدعى استهدافها بدعوى قضائية، رأى من أقامها أنها «ستردع» تلك الكاتبة وأمثالها، و«ستذود عن حياض الإسلام»!
ليس هذا أسوأ ما يمكن أن تفعله تدوينة على أحد مواقع التواصل الاجتماعى، فبينما نجت «ناعوت» من الحبس، فى مراحل التقاضى اللاحقة، سُجِن كتّاب ومثقفون آخرون فى أكثر من بلد عربى بسبب آراء بثوها عبر تلك المواقع، كما فقد آخرون وظائفهم، أو تعرضوا للنبذ والاحتقار.
ما زال أنصار منصات «التواصل الاجتماعى» الرائجة يدافعون عنها باعتبارها «فضاء حراً يعطى صوتاً لمن لا صوت له»، وهو أمر يمكن دحضه بكل بساطة، إذ إن الأكيد أن تلك المنصات لا تتمتع بالحرية المزعومة، كما يعتقد هؤلاء الأنصار، بل إنها كثيراً ما تتحول أفخاخاً، تأخذهم إلى مخاطر فادحة، وتكلفهم أثماناً موجعة.
ثمة عدد من الوقائع التى يمكن أن توضح هذه الفكرة، ومن المثير للاهتمام أن بعضها حدث فى مجتمعات توصف بـ«الحرة» و«المتقدمة»، ففى عام 2010، جرت وقائع قصة مهمة فى هذا الصدد، فقد حاول أحد المواطنين البريطانيين، ويدعى بول تشامبرز، أن يمازح متابعيه، البالغ عددهم 650 شخصاً على موقع «تويتر»، فغرد قائلاً: «سأنسف مطار روبن هود!!». لكن السلطات البريطانية أخذت مزحته على محمل الجد، فأدانته بشكل أولى بتهمة «استخدام نظام الاتصالات العامة فى التهديد»، وفقاً لقانون الاتصالات لعام 2003.
لقد تم إسقاط التهمة عن تشامبرز فى مرحلة الاستئناف، لكن مواطنه فان بريان مُنع من دخول الولايات المتحدة الأمريكية لمجرد أنه غرد على حسابه فى «تويتر» قائلاً: تفرغوا هذا الأسبوع لنميمة سريعة.. سأذهب إلى أمريكا وأدمرها».
تنشئ معظم دول العالم راهناً آليات مستديمة لمراقبة التغريدات وغيرها من الآراء التى تُبث على وسائط «التواصل الاجتماعى»، وتتخذ إجراءات حيال أصحابها، وفقاً لما تعتقده سلطات هذه الدول فى شأن مدى مطابقة هذه الرسائل للمعايير التى تعتمدها.
ليس هذا فقط، لكن عدداً كبيراً من «المواطنين الشرفاء والغيورين على الثوابت» ينشطون أيضاً فى مجتمعات مختلفة لاصطياد التدوينات والتغريدات المثيرة للجدل، والبحث عن طرق لمعاقبة أصحابها.
فى شهر يناير الماضى، اضطرت الفرنسية أمينة خان، التى باتت صاحبة أول وجه إعلانى لفتاة محجبة لدى شركة «لوريال» العالمية لمستحضرات التجميل، إلى الانسحاب من حملة إعلانية ضخمة تنفذها الشركة، بسبب بعض التغريدات التى بثتها على موقع «تويتر» فى عام 2014.
كانت «خان» فى أوج الاعتداد، وهى تشعر بأنها كادت تبلغ أهم مراتب طموحها، إذ أقنعت شركة ضخمة، مثل «لوريال»، بقبول أن تكون فتاة محجبة ضمن فريقها للترويج لمنتجات العناية بالشعر، لكنها هوت فجأة إلى وضعية الدفاع عن النفس، واضطرت إلى تقديم الاعتذار، بعدما تم رصد تغريدات لها اُعتبرت «مناهضة لإسرائيل».
لا تختلف قصة «خان» كثيراً عما جرى لمغنية فرنسية شابة محجبة تدعى منال ابتسام، استطاعت إبهار كثيرين، بغنائها المقتدر، بالعربية والفرنسية، لأغنية «هاليلويا» (الحمد) الشهيرة، أمام لجنة تحكيم النسخة الفرنسية من البرنامج العالمى الرائج «ذا فويس».
فبعدما شاهد غناء «ابتسام» أكثر من مليون مشاهد على «يوتيوب»، باتت تلك الفتاة التى لا يتعدى عمرها الـ22 ربيعاً، فى موضع اتهام، واضطرت إلى الاعتذار، مطلع الشهر الحالى، والانسحاب من البرنامج.
لم تفعل «ابتسام» سوى أنها غردت فى عام 2016، معلقة على حادث «إرهابى» وقع فى مدينة نيس الفرنسية، قائلة: «جيدٌ أن الأمر قد أصبح روتينياً، هجوم واحد كل أسبوع! ودائماً يكون الإرهابى وفياً ويأخذ معه بطاقة هوية.. صحيح، أنه عندما تحضر لعمل قذر لا بد ألا تنسى بطاقة الهوية».
يبدو أن «ابتسام» لديها رأى فى الأحداث «الإرهابية» التى تقع فى بلادها فرنسا، ويبدو أيضاً أن لديها شكوكاً معتبرة فى هذا الصدد، وهى أرادت كمواطنة «حرة» تعيش فى بلد «حر» أن تعبر عن تلك الشكوك، وقد اختارت منصة حرة (تويتر)، للتعبير بحرية عبرها.. فأين الخطأ إذن؟
تصيّد بعض المهتمين تغريدات «ابتسام»، وأعادت وسائل إعلام فرنسية نشرها بكثافة، وهو الأمر الذى استدعى تعليقات حادة على تلك الفتاة ذات الأصول السورية، وهى تعليقات اتهمتها بموالاة «الإرهاب»، وازدراء العلم، وخرق مقتضيات الأمن القومى الفرنسى.
اضطرت «ابتسام» إلى الاعتذار، وبثت رسالة مصورة عبر حسابها على أحد مواقع «التواصل الاجتماعى»، صدّرتها بكلمات ثلاث: «هالو.. شالوم.. سلام»، لتعكس حرصها على احترام التنوع، وعدم التمييز، ولتبعد الشكوك عن موقفها من الإرهاب، لكن هذا الأمر لم يشفع لها، خصوصاً بعدما أصر نقادها على استبعادها من البرنامج.
وكما خضعت شركة «لوريال» للضغوط، وأعلنت «تقديرها» للخطوة التى أقدمت عليها «خان» بالانسحاب من حملتها الإعلانية، خضع أيضاً برنامج «ذا فويس»، وقبل اعتذار «ابتسام»، واستبعادها من المنافسات.
إذا كان هذا هو الحال فى دول «العالم الحر»، فإن الأوضاع لدينا لا تبدو أفضل بالتأكيد، إذ نعرف الكثير من الوقائع التى بدأت بتغريدات على «تويتر»، وانتهت فى السجون، أو الفصل من الخدمة، أو أروقة المحاكم.
ثمة فنانون وإعلاميون ومثقفون أيضاً دفعوا أثماناً لتغريداتهم فى أكثر من بلد عربى، وهو أمر لا يختلف كثيراً عما يقع فى العالم الغربى، وإن كان محتوى التغريدات مختلفاً بطبيعة الحال.
ففى عام 2016، تم طرد الممثل باكستانى الأصل مارك أنور من عمله فى المسلسل البريطانى الشهير «كورونيشن ستريت»، بعدما تم اتهامه بنشر تغريدات اُعتبرت «مسيئة» بحق الهنود، عندما أدلى بآرائه بخصوص النزاع الهندى - الباكستانى فى شأن كشمير، وهو الأمر الذى اعتبرته قناة «آى تى فى» المنتجة للمسلسل «أمراً مسيئاً عرقياً».
تعطينا هذه الوقائع أمثلة واضحة عن الحالة التى بات عليها «فيس بوك» و«تويتر»، ضمن غيرهما من وسائط «التواصل الاجتماعى»، وهى حالة يمكن تلخيصها كما يلى: وسائط «التواصل الاجتماعى»، منصات حرة، للتعبير عن الآراء بحرية، لكن تلك الحرية مقيدة بما تعتبره السلطات، والمجتمع، وجماعات المصالح النافذة، خطوطاً حمراء، وعندما يتم تجاوز تلك الخطوط، ستتوالى المساءلات والضغوط، التى قد تقصيك من مجالك، أو تعطل مشروعاتك، أو تأخذك إلى السجن.
يرسى كل مجتمع، وتضع كل دولة قائمة من القيم الحيوية التى تريد أن تحميها، وتنشط جماعات المصالح، وبعضها مغرض بطبيعة الحال، لكى تضيف إلى تلك القوائم ما يعبر عن مصالحها وأهدافها، وعندما تتصادم تغريداتك مع تلك المصالح، أو تخرق تلك القوائم، فإنك ستعانى كثيراً.
وسائط «التواصل الاجتماعى» حرة، لكنها أيضاً أرشيفك، الذى سيُفتح يوماً، وسيفتح عليك النيران أحياناً.