أكتب هذه الكلمات الآن وأنا أدرك وأستوعب تماما أنه رحل، تجاوزت صدمة فجأة رحيل رضا غنيم كما اعتدت أن أتجاوز كل شيء، ولكن لم أستطع أن أتجاوز كل الألم الذي يشعر به والديك الآن، الفكرة وحدها تدفعني غصبا للبكاء، والغضب من الأقدار والسخط على عدم الاختيار، ماذا لو كنت بقيت؟ ماذا لو أتيحت لك فرصة أن تبقى؟ ماذا لو علم والديك الغيب يارضا؟
لم أكن أعلم أنك وحيد والديك، هذا الأمر كان أشبه بصدمة أخرى، ولكن أنهما رزقا بك بعد 15 عاما كانت القصة الأصعب على الإطلاق، 15 عاما انتظر فيها والديك البسيطين أن يريا كفيك وقدميك، 15 عاما اشتاقا فيها لسماع بكاء رضيعهما، أن تلمس شفتاك ثدي أمك وترضعك بشوق انتظرته سنين، 15 عاما تلهفا لحضن صلبهما الصغير، 15 عاما لم ينقطع فيها دعائهما أن يرزقهما الله بك وعندما يستجيب يحرمهما من نبضهما الحي بعد 27 سنة فقط؟! ماذا لو استطاع والداك يارضا أن يعلما الغيب قبل أن يحملاك في أحضانهما؟ هل كانا سيرفضان مشقة ولهفة وأمل انتظار 15 عاما وإنجابك بعدها، لتكون سبب فرحتهما ومعنى لوجودهما وأملا أن يمتد اسمهما بك بعد عمر طويل لهما، لترحل وهما عجوزين وحيدين وتتركهما مفتوري القلب مكسوري الروح يتمنيان لو رحلا هما وبقيت أنت لتواصل حياتك التي بالكاد بدأتها؟ فيفضلا حينها أن يختارا البقاء دونك ودون أن "ينقطم ظهرهما" بموتك ورحيلك في "عز شبابك وفرحتك"؟.
أم كانا سيختارا ما سارت عليه الدنيا، ويقبلان أن تأتي بعد كل هذه السنوات ليعيشا معك 27 عاما قضيت معظمهم بعيدا عنهما للدراسة والعمل في العاصمة الحزينة بعيدا عن دفء وجودهما بالقرية؟ هل كانا سيفكران في أن 27 عاما كفيلة بأن يشبعا منك ويصنعا معك ذكريات تصبرهما بعد رحيلك، كيف خطوت وأول كلمات لك، وعندما دخلت المدرسة طفلا شقيا، كيف انخرع قلبهما عليك في أيام الثورة، عندما اكتشفا مرضك بالسكر ووصيتهما الدائمة "متكترش حلويات يا رضا"، ومشاجرتهما معك ودعائهما لك، حديثك عن فرحة قريبة كلما فاتحوك في الزواج، وسخطك على كل المناصب وأصحابها وما يفعلوه بالشباب أمثالك؟ والكثير من الأحداث والأحاديث التي كنت تجد من تشاركه معك فيها من أصدقاء كلما كبرت، وكانا هما يشاركانك أنت وحدك فيها.
هل لو رأت أمك نحرة قلبها وهي تنادي عليك جثة صامتة داخل نعش مخيف يحيل بينك وبينها، وتصرخ دون أن تسمعها "مستعجل ليه يا ابني، ده أنت غدار صحيح، كده تغدر بينا يا رضا، طب اقعد معايا إنهاردة وأمشي ياضنايا"، وهي تسير في جنازتك بدلا من زفتك على حبيبتك، تصلك لقبر مظلم وتغلق عليك بابه القاسي بدلا من أن تطفأ نور حجرتك لتنام وأنت تقضي إجازتك معها، لاختارت ألا تحملك في رحمها بعد كل هذا حتى لا تتحمل ألم خطفك منها وحرمانها لك؟
هل كانوا سيرضوا يارضا بحياة قصيرة دافئة نابضة مشعة ذات روح معك يعيشوا على ذكراها بعد أن تفارقهما، أم كانت حياة بور باردة باهتة خالية منك ومن تفاصيلك وضحكتك وحنوك عليهما وحياتك اختيار أفضل من "قطمة ضهر"؟ لو كانا علما الغيب يا رضا لاختارا الواقع ودعوا الله ألا يريهما مكروها فيك ولا يكسر فرحتهما بك ولا يحزن قلبك ويطفأ النور في قلبيهما الذي كنت أنت زيت إنارته، أنت رحلت وظلا هما يبكيانك حد الحسرة، سنمضي جميعا نحكي عنك ونذكرك، ونفتقدك، وسيظلا هما ينتظران وقع أقدامك وصوت مفاتيحك كما تعودا في كل زيارة منك، لن يكفا الانتظار حتى يلتقيا بك يا رضا، فلا تبخل بزيارتهما حلما وكن أحن عليهما من كل دعاء لهما لم يستجب.