بسبب تقاعس وسائل الإعلام المصرية عن محاسبة الإعلاميين الذين يرتكبون الأخطاء المهنية الفادحة، تتزايد أخطاء الإعلام، ويصبح الإعلاميون الخطاءون نجوماً، تحميهم العائدات الإعلانية، التى تبقيهم فوق المساءلة.
لا تهتم معظم القنوات الفضائية المصرية بالقواعد والمعايير المهنية فى أداء مذيعيها، لكنها تركز كل اهتمامها على خدمة الخط السياسى الذى يريده المالك، وهو الأمر الذى يفاقم الأخطاء والتجاوزات.
لا يوجد مجتمع لا يعانى من ممارسات إعلامية حادة ومتردية يرتكبها بعض النجوم تحديداً، حيث تحدث تلك الممارسات فى معظم الدول، سواء كانت متقدمة أو نامية، لكن الدور الأكبر فى مواجهة تلك التجاوزات يلقى دوماً على عاتق الوسيلة الإعلامية، التى يجب أن تظهر الحرص على احترامها للمعايير والجمهور فى آن.
سيمكننا استخلاص العبر من بعض الوقائع التى حدثت فى نظم إعلامية مختلفة فى ما يخص تجاوزات الإعلاميين تحديداً، كما سيكون من المهم جداً معرفة كيفية تصرف وسائل الإعلام التى ينتمون إليها معهم فى حال وقوعهم فى الخطأ.
من أبرز تلك الوقائع، على سبيل المثال، واقعة جرت فى شهر أكتوبر من العام 2010، حين أصدرت شبكة «سى إن إن» بياناً نادراً من نوعه، قالت فيه إن مقدم البرامج الشهير «ريك سانشيز» لم يعد يعمل معها، وشكرته على السنوات التى أمضاها فى خدمتها، كما تمنت له الخير، بعدما كان أحد أبرز نجومها، ومذيعاً بارزاً لواحد من أهم البرامج على شاشتها.
كان «سانشيز» قد أدلى بتصريحات فُهِم منها أنه يجرح مشاعر المواطنين اليهود؛ وهو أمر استدعى الكثير من الانتقادات له وللمحطة، استناداً إلى أن حرية التعبير التى يكرسها التعديل الأول فى الدستور الأمريكى لا تعنى أبداً «تجريح الجماعات العرقية والدينية والطعن فى أخلاق أعضائها بسبب ما يعتقدونه».
قبل هذه الواقعة الشهيرة بثلاث سنوات، أعلنت شبكة «إم إس إن بى سى» الأمريكية الشهيرة قطع علاقتها مع الإذاعى البارز «دون إيموس»، كما أوقفت بث برنامجه اليومى «إيموس فى الصباح»، بسبب ما قالت إنه «تورطه فى تصريحات عنصرية».
حدثت هذه الواقعة فى شهر سبتمبر من العام 2007، حيث كان «إيموس» يمارس هوايته فى النيل من الأقليات مثل السود، والعرب، والمسلمين بتصريحات عنصرية تحط من شأن أعضاء تلك الجماعات، وتثير الكراهية ضدهم.
لكن الشبكة التى يعمل بها هذا الإعلامى لم تتحمل تلك الممارسات، خصوصاً أنها سبق أن تلقت الكثير من الشكاوى من منظمات ومواطنين تطالب بالتحقيق مع هذا المذيع المثير للجدل، والعمل على إيقاف تجاوزاته؛ وهو الأمر الذى حمل الشبكة على الاعتذار عن «إساءات» تورط بها «إيموس» فى العام 2004 ضد الأقلية المسلمة فى البلاد.
يذكرنا هذا بقصة المذيعة تاتيانا ليمانوفا، التى كانت تقرأ النشرة، فى إحدى القنوات الروسية، حينما ورد اسم الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما فى معرض أحد الأخبار، وعندها عبرت ليمانوفا عن موقفها منه على الفور، عبر رفع أصبعها الوسطى فى حركة ذات دلالة لا تخفى على أحد. لقد استغنت المحطة عن خدمات ليمانوفا، رغم أنها ربما تشاركها الشعور السيئ ذاته حيال أوباما.
الحركة التى أتت بها ليمانوفا غير مقبولة بالطبع، لكنها على أى حال أقل سوءاً مما فعلته إحدى المذيعات اللبنانيات، التى كانت تقرأ خبراً فى نشرة تقدمها قناة لبنانية تتبع أحد الفصائل السياسية العديدة فى هذا البلد، حين وصلت إلى معلومة مقتل أحد أعضاء تيار «14 آذار»، فما كان منها إلا أن تهكمت على مقتله، قائلة «العوض بسلامته»، بل زادت متمنية مقتل سياسى آخر من الفصيل ذاته، حين شجعت القتلة بقولها: «هلّا باقى أحمد فتفت» (ما فُهم على أنه تحريض على قتل هذا السياسى). لقد طردت القناة اللبنانية المذيعة المتورطة فى هذا الخطأ فوراً، كبادرة تظهر تفهمها لعمق الخطأ واحترامها للقانون وقيم العمل الصحفى فى الوقت ذاته.
تشير الوقائع السابقة إلى جملة من الحقائق؛ أولاها أن المذيعين، مهما كانوا نجوماً، يرتكبون الأخطاء فى معظم دول العالم، وفى أفضل النظم الإعلامية، وثانيتها أن معظم تلك الأخطاء ينطلق من خلط الإعلامى بين الرأى والخبر، أو بين موقفه وبين ما يجب أن يقوله للجمهور، أو بين دوره كناقل للأخبار والأحداث وميسر للنقاش العام إزاءها، وبين كونه زعيماً سياسياً أو مفكراً أو قاضياً أو محتكراً للحقيقة.
تشير تلك الوقائع أيضاً إلى أن معظم هذه الأخطاء ينطوى على جرائم، وأن حرص بعض المجتمعات على عدم المساس بحرية الرأى والتعبير يؤدى إلى عدم توقيع عقوبات قضائية بحق هؤلاء الإعلاميين فى بعض تلك الوقائع.
لكن ما لا يمكن تجاهله فى معظم هذه الوقائع، إن لم يكن كلها، أن وسائل الإعلام التى يعمل بها هؤلاء الإعلاميون أوقفتهم عن العمل، أو طردتهم من الخدمة.
ما يحدث فى مصر يبدو عكس ذلك تماماً.
فى الشهور السابقة حدثت أخطاء فادحة من قبل العديد من المذيعين والمذيعات، وبعض هذه الأخطاء تسبب فى زعزعة الروح المعنوية للقوات النظامية التى تواجه تحدياً إرهابياً، وبعضها الآخر كاد أن يتسبب فى مشكلات دبلوماسية مع دول شقيقة، فضلاً عن التجاوزات الحادة التى قامت بها إحدى المذيعات خلال مناقشتها لموضوع التحرش والاغتصاب.
يذكرنا هذا التجاوز الأخير بما حدث قبل أربع سنوات، حين كانت إحدى المذيعات تتلقى تقريراً من زميل لها عن حالات تحرش جنسى أثناء وقائع احتفال فى ميدان التحرير، فما كان منها إلا أن علقت قائلة: «مبسوطين بقى».
لقد تورطت المذيعة الأولى فى مخالفة صارخة تتعلق بالتمييز العنصرى بين الرجال والنساء، حين وصفت الرجال بأنهم شرهون جنسياً، وأنهم، لأسباب بيولوجية، غير قادرين على ضبط سلوكهم الجنسى، فضلاً عما استخدمته من كلمات متجاوزة وغير لائقة، فى ما تورطت المذيعة الثانية فى مخالفة أخرى تتعلق باستحسان الجريمة أو تبريرها، كما عكست وعياً بائساً بحقوق المرأة وكرامتها، وكلتاهما لا تختلف أبداً عن المذيعة التى أهانت دولة عربية مهمة، أو المذيع الذى طرد ضيفاً، والآخر الذى هدد المشاهدين بضربهم بالحذاء، أو هؤلاء الذين شنوا حملة الكراهية المأفونة على الجزائر سابقاً، وأولئك الذين يطالبون بإعدام المعارضين فى الشوارع.
لكن الرابط فى كل المخالفات التى يرتكبها الإعلاميون المصريون فى هذه الممارسة الحادة والهوجاء هو الاستمرار والتصاعد من جهة، وعدم محاسبة الإعلامى المخطئ من قبل مؤسسته الإعلامية من جهة أخرى.
تقوم بعض وسائل الإعلام التى ينتمى إليها إعلاميون ارتكبوا تلك الأخطاء بتقديم اعتذار أحياناً، لكن الإعلامى المخطئ عادة ما يعود إلى ارتكاب الأخطاء ذاتها، وبشغف أكبر. والأخطر من ذلك أن أهمية المذيع المخطئ ورواج برنامجه وسعة انتشاره تزداد بوضوح كلما كان الخطأ الذى يرتكبه أكبر وأكثر فداحة.
من دون محاسبة الإعلاميين المتجاوزين بواسطة وسائل الإعلام التى يعملون بها، ستظل أخطاء الإعلام تتفاقم، ولا عزاء للجمهور، ولمهنة الإعلام.