التخلص من النخب المنتمية لنظام حكم بائد أحياناً ما يتم بحسابات سياسية معينة، وفى أحيان يعتمد على المباغتة، والبتر الحاسم للنخب الموروثة. نظام ثورة يوليو 1952 على سبيل المثال اعتمد على الأسلوبين؛ استخدم أسلوب البتر مع صحيفة «المصرى» التى كانت مملوكة لآل أبى الفتح، فقرر إغلاقها عام 1954، لأنها كانت تعتمد على «نفس ليبرالى» لا يتسق مع توجهات النخبة الحاكمة الجديدة، واعتمد على أسلوب «الحسابات السياسية» فيما يتعلق بالإبقاء على بعض الوجوه الموروثة عن العصر الملكى لتتولى قيادة الصحف، وقد اختارها بعناية ومعايير دقيقة أساسها تمكن «الانتهازية» من عقل ونفس المصطفين الأخيار.
تستطيع أن تجد تأريخاً اجتماعياً ومؤسسياً جيداً لصراعات الساسة والصحفيين خلال تلك المرحلة فيما قدمه المرحوم «فتحى غانم» من كتابات، نعم هى كتابات أدبية لكنها عكست ظلال الواقع المعاش حينذاك. رواية «زينب والعرش» على سبيل المثال تحكى قصة الصراع الذى اشتعل داخل صحيفة «العصر الجديد» بعد الثورة، والذى بدأ بزرع رقيب داخل المؤسسة، هو «عبدالسلام دياب»، ليواجه أحد وجوه النخبة الصحفية القديمة الموروثة عن العهد البائد، والمتمثل فى رئيس التحرير «عبدالهادى النجار». «دياب» كان ضابطاً مؤمناً بالثورة، وأهدافها فى القضاء على الفساد، وكان يرى فى «عبدالهادى» رمزاً من رموز الفساد الذى تجذر وأثمر وأينع فى عصر الملكية، ورأى أن من الضرورى التخلص منه، وإعادة هيكلة المؤسسات الصحفية كلها بحيث تصبح مملوكة للشعب الذى يمثله ضباط يوليو بالطبع.
بعد عدة سنوات، وتحديداً فى العام 1960 صدر قانون تنظيم الصحافة، وآلت ملكية الصحف التى حازها أفراد وأسر إلى الاتحاد الاشتراكى، وتم تعيين عبدالسلام دياب رئيساً لمجلس إدارة جريدة «العصر الجديد». كان أول قرار اتخذه «دياب» هو إقالة «عبدالهادى» من منصبه كرئيس للتحرير. أثناء اللقاء الذى جمع بين الاثنين نصح «عبدالهادى»، «دياباً» بالاتصال برؤسائه ليتأكد منهم من سلامة قراره، فغضب الأخير وقال له إن لديه تفويضاً لتنظيف المؤسسة من الفساد. امتثل «عبدالهادى» وخرج من الصحيفة، لكن فئراناً عديدة تسكعت فى «عب» دياب بعد أن عاد إلى مكتبه، فاتصل برؤسائه ليعلمهم بالأمر، فثاروا ضده وحمدوا الله أنه لم يعلن القرار بعد. اندهش «دياب» من موقفهم، لكنهم أفهموه أن إقالة «عبدالهادى» ستؤدى إلى إضاءة «لمبات حمراء» فى مواقع عديدة، وسيظن أشباهه أن النظام سوف يتخلص منهم، وفى ذلك خطر كبير عليه، على الأقل فى المرحلة الحالية، ونصحوه بالذهاب إلى «عبدالهادى» فى بيته وإخباره بالعدول عن القرار. وعندما سألهم: كيف سيستقبل «عبدالهادى» هذا التحول الذى وقع فى دقائق.. وكيف سيتعامل معه فيما بعد، طمأنوه قائلين: «لا تقلق عبدالهادى سيمتثل لك.. لأنه انتهازى من طراز رفيع»!.
أنتقل من هذا المشهد التاريخى إلى مشهد احتجاز الإعلامى خيرى رمضان بتهمة إهانة الشرطة، وأسأل: كم لمبة حمراء أضاءت فى مواقع عديدة بعد ما حدث؟. ولو تم احتواء الموقف بشكل مؤقت فما مساحة القلق الذى يمكن أن يتسرب إلى نفوس من أضاءت اللمبات الحمراء داخلهم حول المستقبل؟.