عرفنا منذ نحو نصف قرن كتائب الأعمال الوطنية، ونشأت فكرتها لتكون بديلاً عن الحرس الوطنى، وجناحاً موازياً للقوات المسلحة، ولكنه معنى بالإصلاح والتعمير. لذلك كانت الكتائب كتائب وطنية للأعمال الوطنية.
ذكرنى ما يقارفه الجانحون من الألتراس، وغيرهم ممن شردوا عن القيم الاجتماعية والسلوكية، ووقعوا فى محارم القانون، وأخلوا بالنظام العام وبالآداب. هؤلاء فى ظنى يحتاجون إلى إصلاح، ليس كإصلاح السجون المنقوش عليها «تأديب وتهذيب وإصلاح»، وإنما إصلاح حقيقى شامل، يواليهم بما ينقصهم من تعليم، أو يحتاجونه من ثقافة ومعارف، وما يلزمهم من آداب الخُلُق وآداب السلوك، ويبسط لهم الفرصة فى إتقان حرفة من الحرف، أو صنعة من الصناعات، ليفتح أمامهم بعد إعدادهم فرصاً صحية للانخراط فى المجتمع، والتآلف معه، والعطاء المتبادل فيه، بدلاً من البطالة والجنوح والبلطجة!
بقدر ما يحتاج هؤلاء إلى تهذيب حقيقى وشامل، فإن المجتمع فى حاجة ماسة إلى التخلص من ويلاتهم. هذا التخلص، يحتاج فى ظنى إلى أكثر من الأسلوب التقليدى فى التعامل مع الجانحين، بقوة القانون والعقاب.
فقد يزيدهم ذلك جنوحاً من جراء الاختلاط بأخلاط شتى بالسجون، وقد كانت «جماعة التكفير والهجرة» نبتاً للاحتكاك بالإخوان وغيرهم بالمعتقلات فى الستينات، وقد امتدت أفكارهم الجانحة إلى خارج مصر، وطالت البيت الحرام وارتكبت فيه جريمةً كبرى عالجتها السعودية بحكمة وحزم.
وقد يفلت من حكم القانون والعقاب، من لم يُضبط بجريرة ترتب مساءلته، وقد لا يصل جنوحه إلى حد الوقوع فى محارم القانون، فيحوم حوله بما يؤذى المجتمع ويكدر سلامه وأمنه.
فكرة كتائب الأعمال الوطنية تتدارك هذا كله، وتتيح لكل الشرائح فرصة حقيقية لتصحيح اعوجاجهم.. النفسى والذهنى والسلوكى، وتهيئ لهم العودة أصحاء سالمين إلى المجتمع، وقد اعتادوا النظام، وتلقوا فى إطاره ما ينقص هذا أو ذاك من تعليم أو تربية أو ثقافة أو معرفة عامة، وتلقوا عادة الالتزام السلوكى الذى لا أزال أذكر كيف أننى اكتسبته شخصياً من فترة تجنيدى ثم أثناء التحاقى فى سلك الجامعيين بالكلية الحربية، ثم أثناء خدمتى بصفوف ووحدات القوات المسلحة التى شربنا فيها النظام حتى صار فى نسيجنا بلا اصطناع، ندرج عليه تلقائياً، وإليه مرجع تنظيم حياتى حتى الآن، ما بين العمل والرياضة والاجتماعيات، وفى تنظيم عملى ما بين الكتابة والتأليف وما بين المحاماة وما بين الأعباء الفكرية والثقافية.
كتائب الأعمال الوطنية
هذه الكتائب تؤهل الملتحقين بها تأهيلاً متنوعاً وشاملاً، كلٌّ بحسب ما يحتاجه ويفضله، وبحسب ما يقدر عليه، فى إطار نظام أشبه بالنظام العسكرى الدقيق، فى معسكرات يجب أن تكون خارج الوادى، مزودة إلى جوار النظام والانضباط، بمزارع وورش وتجهيزات لتعلم وإتقان الحرف المتنوعة، وفى إطار التشرب بروح النظام الصارم ومسئولية الالتزام.
التهذيب الذى تنهض عليه كتائب الأعمال الوطنية، وهى تقوم بهذا الواجب العريض لصلاح الفرد وسلام المجتمع، يَلْزَمُها ما يشبه الفصول التعليمية، وقد مارست شخصياً شيئاً من ذلك فى الإدارة العامة للقضاء العسكرى إثر نكسة 1967، فشكلت فصلاً لتعليم القراءة والكتابة والحساب للمجندين غير المؤهلين، واستعنت فيه بضباط الصف المتطوعين، وأيضاً بجنود المؤهلات العليا والمتوسطة، ومنهم من كان يعمل بالتدريس، فأقبل المتلقون على التعلم فى هذا الفصل بحماس وشغف، وتصادف بعد سنين عديدة أن التقيت مصادفة ببعضهم فوجدته يذكر بالعرفان ما تعلمه وما أتاح له فرصاً أوسع فى العمل.
الفرز والتجنيب
هذا الفرز فرزٌ واجب، ما بين المقبل راغباً، وما بين المستجيب طائعاً، وما بين المقبل على غير رغبة. وهو واجب أيضاً بين درجات وأنواع السلوك، فكما أن البلاغة هى موافقة الكلام لمقتضى الحال، فإن التعليم والتربية والتثقيف والتدريب والتأهيل يحتاج أيضاً إلى رعاية مقتضى الحال.
ليست هذه الفكرة فكرة طوباوية تحلق بعيداً عن الواقع، وإنما هى أنموذج عمل وإصلاح وتأهيل واجب وممكن التطبيق، يجفف ينابيع الجنوح، ويحفظ للمجتمع سلامه، ويؤهل الملتحقين بالكتائب للعودة إلى المجتمع بفهم أصوب، وبتعليم وتثقيف، وبتأهيل يفتح لهم فرص العمل بدلاً من الجنوح والشرود.
الادخار المنظم
لفرد كتيبة الأعمال الوطنية، مكافأة شهرية كالمكافأة التى تؤدى للجندى المجند، ولكن لا يتقاضى فرد الكتيبة منها إلاَّ ما يفى بحاجاته الشخصية، ويُدَّخَر له الباقى فى صندوق خاص، يتجمع فيه مجمل مكافآته فى نهاية الخدمة، لتكون بذرة للانخراط فى الحياة، وما عساه يرغب فى استثماره ولو فى «كشك» أو متجر للبيع، أو فى إقامة ورشة بالتشارك مع غيره.
اعتياد النظام مكسب.
واعتياد السلوك القويم مكسب.
واعتياد العمل المنتج مكسب.
هذه العادات عادات صحية، ليست كشرانق الاعتياد على الجنوحات ومسالك الشرود والإيذاء.
الإعـداد
يحتاج إعداد هذه الكتائب إلى خبرات عسكرية، ويحتاج أيضاً إلى إطار قانونى، ويحتاج ثالثاً إلى دعم تباشره هيئات المجتمع الرسمية والمدنية كل فيما يختص به أو يقدر عليه.
عرفنا من دروس الحياة أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، ونحن نَقْدِر ونستطيع، وليس يجوز أو يستقيم أن نفقد قدرتنا على الحلم، مثلما لا يجوز أن نفقد بالتبلد قدرتنا على الدهشة. ترقّى الأفراد والمجتمعات إنما هو حصاد «الدهشة» و«الحلم»، وأيضاً حصاد القدرة على التوقع والرؤية والاستبصار.
مصر غنية بطاقاتها البشرية، واستثمارها لا يقل فائدة عن استثمار المزارع وإنتاج المصانع والورش. الطاقة البشرية المصرية طاقة عريضة تحتاج إلى تعامل متبصر يبتكر الحلول التى تغالب وتصلح ما يحتاج إلى إصلاح وتأهيل.
مصر غنية بعلمائها، وبمثقفيها، وبصناعها، غنية بمواردها وإمكانياتها، تقدر وتستطيع أن تواجه ما اشرأب من جنوحات لا بد من تقويمها وإصلاحها وتأهيلها. من حق المصرى أن يعيش فى سلام، وأن يتمتع بمشاهدة الرياضة فى أمان، ومن حق الجانح علينا أن نقومه ونصلحه ونؤهله، ومن حق الأسوياء ألاَّ نحرمهم من متع الحياة استسلاماً أو عجزاً عن مواجهة الخطأ بما يستوجبه.