درس بليغ بإمكانك أن تستخلصه من تأمُّل الآيات الثلاث الأولى من سورة الروم. يقول الله تعالى: «ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ». عندما وقعت الحرب بين الفرس والروم أيام النبى -صلى الله عليه وسلم- انقسم المجتمع المكى إلى فريقين: فريق المشركين المؤيد للفرس، لأنهم وثنيّون أمثالهم، وفريق المؤمنين الذين أيّدوا الروم لأنهم أهل كتاب، وحدث أن انتصر الفُرس على الروم فشمت المشركون، ثم نزلت تلك الآيات الكريمات التى تبشِّر بإعادة الكرَّة وانتصار الروم على عدوهم خلال بضع سنين، أى فى مدة تقل عن 10 سنوات.
الانتصار أداء. والهزيمة أيضاً أداء. وكل ما تنبّأت به الآيات الكريمات أن أداء الفرس بعد النصر سوف يؤدى بهم إلى الخسارة، وأن أداء الروم بعد الخسارة سوف يؤدى بهم إلى النصر. فى الجولة الأولى التى انتصر فيها الفرس أجاد ملكهم «كسرى» فى اختيار قادة المعركة، فأسندها إلى اثنين من قواده دقق فى اختيارهما بناء على معيارَى القوة والذكاء، كان أولهما قائداً يسمى «فرخان» والثانى يسمى «شهريراز». تمكّن القائدان من قهر الروم وهزيمتهم هزيمة منكرة، وبعد النصر بدأت الفتنة تضرب بيديها ورجليها فى معسكر الفرس. فقد حلم أحد القائدين «فرخان» بالجلوس على عرش كسرى. اتكأ يوماً بين بطانته وسألهم: أليس من حق مَن قاد الفرس إلى النصر الجلوس على العرش؟. فقالت البطانة «بلى»!. وصل الكلام إلى «كسرى» فقرر التخلص من «فرخان» وأغرى به أخاه، ووعده بأن يضعه مكانه إذا تمكن من قتله. شعر الأخوان بالخطر، فما كان منهما إلا أن اتصلا بقيصر الروم، واتفقا معه على خيانة «كسرى» وتمكين الروم من رقاب الفرس وهو ما رحب به القيصر. فى الوقت الذى كان الحسد والغيرة والخيانة والانشغال بالعرش تشغل قادة الفرس كان الروم يرتبون لإعادة الكرّة على عدوهم ويستعدون بكل ما أوتوا من قوة للثأر من هزيمتهم الأولى، وهو ما تحقق بالفعل بعد 9 سنوات.
الانتصار والهزيمة أداء، ومعالم الأداء تتجلى خلال عدة سنوات يرتفع فيها أقوام، وينكسر فيها آخرون، يتحول فيها القوىّ إلى ضعيف، والضعيف إلى قوى. لقد أراد الله تعالى أن يعلّم الخلق الدرس، ويثبت لهم بالتجربة العملية أن النجاح يساوى جهداً بشرياً معتبراً وسعياً حثيثاً نحو تحقيق الأهداف يمتد لسنوات. كان من الممكن أن ينتصر الروم من البداية، وكان من اليسير أن يكرّوا على الفرس بعد شهر أو عام من الهزيمة. فالله تعالى صاحب الأمر قبل وبعد «لله الأمر من قبل ومن بعد»، لكنه جلّ وعلا أراد أن يتعلم البشر الدرس ويفهموا أن النجاح أو الفشل أداء ممتد عبر زمن، يحوّل الهزيمة إلى نصر، ويحيل النصر إلى هزيمة. لا يغرنك نصر وهمى يحققه طرف على آخر فى صراعات الحياة، فما أسهل أن تتغير المعادلة، وتختلف الظروف، بمرور الوقت. وتبقى الحقيقة الدائمة أنه أمام النصر أو الهزيمة لا بد أن يفتش العاقل عن الأداء!.