هذه الظلال تجدها حاضرة فى تجربة كثيرين ممن حكموا مصر منذ أن فتحها العرب على يد عمرو بن العاص. فبنسب مختلفة أخذ كثير من حكام هذا البلد من سمات هذا الرجل. أسلم «عمرو» قبل فتح مكة، بعد غزوة الخندق. ويذكر صاحب «الكامل فى التاريخ» أن: «عمرو بن العاص لما بلغه قتل عثمان قال: إن يلِ هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب سبباً، وإن يلِه ابن أبى طالب فهو أكره من يليه إلىّ. فبلغه بيعة على فاشتد عليه وأقام ينتظر ما يصنع الناس».
اللافت للنظر أن كثيراً ممن عارضوا عثمان أثناء حياته انقلبوا إلى باكين عليه بعد استشهاده. لم يكن بكاؤهم حزناً على ما حاق بالخليفة قدر ما كان غضباً على مآل الأمر إلى على بن أبى طالب، من بين هؤلاء عمرو بن العاص الذى انقلب على عثمان بعد أن استبعده من ولاية مصر. سمع عمرو عن مسير عائشة وطلحة والزبير لقتال على، فأقام ينتظر ما يصنعون، حتى سمع بهزيمتهم فى موقعة الجمل، فارتج عليه أمره -كما يحكى ابن كثير- فسمع أن معاوية بالشام لا يبايع علياً وأنه يعظم شأن عثمان، وكان معاوية أحب إليه من على، فدعا ابنيه عبدالله ومحمداً فاستشارهما وقال: ما تريان؟ أما على فلا خير عنده، وهو يدل بسابقته، وهو غير مشركى فى شىء من أمره. فقال له ابنه عبدالله: توفى النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبوبكر وعمر وهم عنك راضون، فأرى أن تكف يدك وتجلس فى بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال له ابنه محمد: أنت نابٌ من أنياب العرب ولا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت. فقال عمرو: أما أنت يا عبدالله فأمرتنى بما هو خير لى فى آخرتى وأسلم لى فى دينى، وأما أنت يا محمد فأمرتنى بما هو خير لى فى دنياى، وشر لى فى آخرتى.
احتل عمرو موقع «المشير» داخل قصر معاوية بن أبى سفيان، وأسدى له نصائح سديدة فى مواقف عديدة. إلى جواره قاتل فى معركة «صفين»، حيث ظل أهل الشام والعراق يتقاتلون فيما بينهم عدة أسابيع دون أن يظهر طرف على طرف بشكل حاسم، ويذكر ابن كثير أن «عليا» حمل على عمرو بن العاص يوماً من أيام صفين، فضربه بالرمح فألقاه إلى الأرض فبدت سوءته، فرجع عنه، فقال له أصحابه: مالك يا أمير المؤمنين رجعت عنه؟، فقال: أتدرون ما هو؟ قالوا: لا! قال: هذا عمرو بن العاص تلقانى بسوءته فرجعت عنه، فلما رجع عمرو إلى معاوية، قال له: احمد الله واحمد استك. وعندما بدأت الدفة تميل لصالح على فى موقعة صفين، أشار عمرو على «معاوية» برفع المصاحف على أسنة الرماح والمطالبة بتحكيم كتاب الله.
مواقف عديدة تستحق التأمل فى حياة عمرو ابن العاص، وكلها تؤكد أن أبلغ ما ميز شخصية هذا الرجل: «الوضوح الشديد مع الذات»، فقد كان صريحاً فى كراهيته لفكرة أن يلى على بن أبى طالب الأمر، واختار الدنيا مع معاوية، ليس من أجل الدنيا وفقط، بل من أجل التخلص من حالة الارتباك التى أصابت المسلمين أواخر عهد عثمان والفتنة التى وقعوا فيها، والعودة إلى حالة الاسترخاء إلى أطايب الدنيا. وفى هذا السياق تأتى تغريدته الشهيرة: «حاكم غشوم خير من فتنة تدوم».