فى شهر فبراير الماضى، نشر عدد من وسائل الإعلام العالمية البارزة تفاصيل قصة محزنة عن «انتهاكات جنسية بحق لاجئات ونازحات سوريات»، وهو الأمر الذى فجر اهتماماً بالغاً واستياء واسعاً فى الأوساط السورية.
تحدث الانتهاكات الجنسية فى جميع مجتمعات العالم، وتزيد حدتها فى أوقات النزاعات والحروب، ومن واجب وسائل الإعلام المختلفة تسليط الضوء على هذه الانتهاكات، لكن هذه المسألة يجب أن تحدث بأقصى درجات الاحترافية والإتقان، بحيث تكشف المسئولين عن هذه الجرائم، وتقدم أدلة دامغة على حدوثها، وتحافظ على كرامة السيدات المنتهكة حقوقهن، والعائلات والمجتمعات والدول اللاتى ينتمين إليها.
لم يكن هذا هو النهج الذى اتبعته تلك الوسائل الإعلامية المرموقة للأسف، بل إنها قامت بتغطية القصة بطريقة مبتذلة كتلك التى تعمد إليها الصحف الصفراء، إذ خلصت هذه الوسائل إلى أن «الانتهاكات منتشرة لدرجة أنه لا يمكن للنساء أن يذهبن للحصول على المساعدات دون أن يلحق بهن العار، وأصبح هناك افتراض بأنه إذا ذهبت أى امرأة إلى أماكن توزيع المساعدات، فإنها قد قدمت تنازلاً جنسياً مقابل المساعدة».
وعندما تفحص القصة التى قدمها الإعلام الغربى بهذا الصدد لا تجد سوى اتهامات مرسلة من قبل عاملين فى مجالات الإغاثة، أو تقييمات من قبل منظمات أممية، دون أى دليل مادى واحد على صحة الأمر، أو لقاء مع ضحية مفترضة، أو تسجيل، أو وثيقة.. فقط آراء وانطباعات تم تعميمها، لإشاعة أن كل سيدة سورية تحصل على إعانة أو مساعدة كانت هدفاً لاستغلال جنسى.
لا يمكن أن أتصور أن تلك الوسائل، وهؤلاء الصحفيين الذين أعدوا هذه القصة ونشروها لا يعرفون أنها لا تستوفى معايير النشر، ولا يدركون أنها تلطخ مجتمعاً كاملاً بالعار، وأنها تحد من قدرة هؤلاء النسوة المنكوبات على قبول المساعدات لاحقاً، وأنها تؤجج عوامل النزاع فى الملف السورى.
إنها وسائل إعلام تنهش فى لحم الدولة السورية ومجتمعها، لكنها ليست وحدها للأسف.
فى مطلع شهر يناير الماضى، كلفت الحكومة السورية وزير الإعلام الجديد عماد سارة بوضع استراتيجية إعلامية جديدة، تعمد إلى نقل حقيقة الحياة العامة فى البلاد بعد الانتصارات التى تحققت، وتوفر آليات تواصل مع العالم الخارجى.
لكن الأوضاع التى تعيشها المنظومة الإعلامية السورية فى الداخل لا تبدو ناضجة لأى تأطير استراتيجى، إذ يبدو الإعلام الرسمى، كما كان دائماً، ذراعاً دعائية بائسة للنظام، فى ظل انقطاع تام عن المعايير المهنية من جانب، وعوز مستديم لموارد صناعة الإعلام واستحقاقاتها الإدارية والمالية والبشرية من جانب آخر.
لقد ظل الإعلام الرسمى السورى، على مدى نحو نصف القرن، بعيداً عن أى صيغة تضمن حداً أدنى من شروط استيفاء مقتضيات «الخدمة العامة الإعلامية»، التى تقدم محتوى إعلامياً يتسم بدرجة من الاستقلالية والموضوعية والتوازن لجمهور يتسع وتتزايد حاجاته الإعلامية، ويحظى بفرص للتعرض إلى منظومات إعلامية بديلة.
لقد ظل الإعلام العام السورى أنموذجاً شديد الوضوح على الأحادية والانغلاق والتوجه الدعائى والانقطاع عن القيم المهنية، رغم انطوائه على الكثير من الإعلاميين الأكفاء، وها هو يفقد دوره ومبرر وجوده باطراد، مع انصراف الجمهور عنه، وتردى الثقة فيه. فى مقابل تلك المنظومة المتهالكة، التى تبدو بلا أفق ولا عوامل استدامة، تبرز منظومة أخرى جديدة، يمكن وصفها بـ«الإعلام البديل».
و«الإعلام البديل» عبارة عن عدد كبير، يصعب جداً حصره، من وسائل إعلام متفاوتة الحجم، صدرت خارج البلاد، وفى مناطق داخلها غير خاضعة لسلطة الحكومة، تعبيراً عن جماعات أو مصالح سياسية مناهضة لنظام الرئيس بشار.
يقول الإعلاميون السوريون الذين يعملون فى تلك الوسائل إنهم يريدون «التحرر» من «طغيان» نظام بشار الأسد، وكسر الانغلاق الإعلامى المهيمن على الأوضاع فى بلادهم لنحو خمسة عقود، والخروج من أسر الماضى الاستبدادى إلى فضاء أوسع وإعلام حر.
وينتقد هؤلاء بشدة أداء وسائل الإعلام المملوكة للدولة، ويعتقدون أنها سبب رئيس فى قرارهم بالعمل لوسائل إعلام بديلة، حتى لو كانت تمول من دول تناصب الحكومة السورية العداء.
ينخرط هؤلاء الإعلاميون السوريون الجدد فى العمل فى وسائل إعلام مطبوعة ومسموعة ومرئية وإلكترونية جديدة، يبلغ عددها العشرات، وتتكاثر كالفطر، ويصدر بعضها، ثم يتوقف عن الصدور، ثم يصدر مرة أخرى، أو يندثر.
يعتقد معظم هؤلاء الإعلاميين أن تلك الوسائل يمكن أن تشكل صناعة إعلام قابلة للاستدامة والازدهار، والوفاء بحقوق الجمهور، فى مجتمع حر يمر بمرحلة انتقال ديمقراطى، فى حال سقط النظام. لكن ثمة تحديات كبيرة تواجهها تلك الصناعة، وهى تحديات قد تعوق تطور المجال الإعلامى السورى، وقد تحرفه عن قيم العمل الصحفى الرشيد، وتحرمه من فرص الاستدامة والازدهار. بسبب حسها الثورى، وانتمائها السياسى، تفقد تلك الوسائل الإعلامية الجديدة قدرتها على انتهاج أساليب مهنية فى العمل، وفى مقابل الانحياز الحاد لوسائل الإعلام المملوكة للدولة السورية، تمارس تلك الوسائل الجديدة انحيازاً لا يقل حدة فى الاتجاه المضاد.
مشكلة أخرى تبرز فى أداء تلك الوسائل، إذ لا يهدف معظمها إلى تحقيق الربح، أو حتى الوصول إلى نقطة التوازن لمعادلة النفقات، لكنها بالطبع تسعى إلى إحداث أثر سياسى، يتعلق برؤيتها لما يجب أن تكون عليه الأوضاع فى سوريا، وبالتالى فهى لا تقيم وزناً لاعتبارات الصناعة وضمان الجدوى الاستثمارية، طالما أن أهدافها السياسية تتحقق، وهنا يتعمق الأداء الدعائى لها، وتفقد صلتها شيئاً فشيئاً بقيم العمل الإعلامى.
كثير من العاملين فى تلك الصناعة الجديدة فى سوريا وخارجها ليسوا من الإعلاميين، ومعظمهم ناشطون أو سياسيون أو مقاتلون، وهم دخلوا الإعلام من باب «الثورة»، أو «الجهاد»، أو القتال، وهم يريدون أن يستخدموا تلك الوسائل الممولة تمويلاً جيداً فى تحقيق أهدافهم السياسية، وليس فى إعلام الناس أو تنويرهم.
غالبية الأموال التى يتم ضخها فى تلك الصناعة غير معلومة المصدر، وهناك دول إقليمية وأجنبية كثيرة تستثمر فى هذا المجال. الاستثمار هنا لا يستهدف تحقيق الجدوى، وبالتالى لا يضمن كفاءة المنتج، ولا يُخضع الأداء للتقييم المهنى، لكنه يريد الناتج السياسى، وهو أمر يعمق مشكلات تلك المنظومة.
تبدو سوريا تائهة بين إعلامين، أحدهما صنيعة «الاستبداد»، وثانيهما صنيعة «الثورة»، بينما يستهدفها إعلام ثالث هو الإعلام الدولى والإقليمى الذى يعكس مصالح وأغراض القوى التى تموله.
تعطينا سوريا مثلاً واضحاً على حالة دولة ينهشها الإعلام بكافة صوره، ويعمق جراحها، ويحول دون استعادتها من الفوضى، وهو أمر تشارك فيه قوى خارجية مغرضة، لكننا أيضاً لا يمكن أن نعفى الحكومة السورية من المسئولية عنه.
لم ترغب الحكومة فى بناء نظام إعلامى رشيد، فباءت بصراع إعلامى ينهش فى لحم البلد.
إعلام محترف، وحر، ومسئول، ومنظم تنظيماً جيداً، يصون الدولة ويدافع عنها، بشكل أفضل مما تفعله أذرع الدعاية العمياء.