هى فرع كريم من «آل عمران» الذين شرّفهم الله وخلّد ذكرهم فتصدّر ثانى سور القرآن، كانت أمها تتمنى أن تنجب ذكراً تهبه للعبادة والتبتل، فولدت أنثى، فنادت أمها «حنة» وكأنها تعتذر لربها: «رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أنثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، فلم تكن تعلم أن مكانة وشرف هذه الابنة سيفوق آلاف الرجال الصالحين.
اقترع الصالحون بعد وفاة والدها على شرف كفالتها، وسجّل القرآن ذلك، وإعادتهم للاقتراع حتى تكرر وقوعه على نبى الله «زكريا» زوج خالتها.
ذهبت إلى أورشليم لتخدم المعبد وتتفرغ للعبادة والذكر، قرأت كثيراً فى التوراة عن المسيح ابن الإنسان من نسل داوود وأنه سيقيم العدل ويداوى الأمراض ويخلع جبّاريها من عروشهم وينزع الشرور.
كانت أمها «حنة» تتمنى أن تراها زوجة ولها أولاد، ولكن مريم كانت تُمنى نفسها أن تكون أماً للنبى المنتظر، خطبها يوسف الشاب الصالح من قريتها الناصرة.
تتوالى الآيات والكرامات على «مريم الصدّيقة»، ففاكهة الصيف يراها زكريا عندها فى الشتاء وبالعكس، يقول لها: «أَنَّى لَكِ هذا؟»، فتقول: «هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»، لا تنسب لنفسها فضلاً ولا تمنُّ بعبادة أو طاعة، بل تزداد انكساراً لله وتواضعاً مع خلقه.
أمرها ربها: «يَا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَّاكِعِينَ»، فقامت بذلك حق القيام، وبينما هى فى محرابها إذا بالسكينة تغشاها وإذا بالملائكة تناديها: «يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».
ذهلت للبشرى التى جعلتها تضطرب وتنسى رجاءها الدفين أن تكون أماً للمسيح المنتظر فقالت: «رَبِّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ؟!»، فجاء الرد عبر الملائكة:«كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ». وجدت شاباً وسيماً يشع النور من وجهه داخل محرابها ففزعت قائلة: «إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِياً»، فهدّأ من روعها بقوله: «إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِياً»، فعادت لتعجبها السابق: «أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِياً»، وعاد التذكير مرة أخرى: «كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِياً». انتهى الأمر ولا نقاش فيه.
كل النساء يفرحن بالحمل، إلا مريم تجمع نفسُها المتناقضات، تفرح لأنها تحمل النبى المنتظر وتقلق لأن قومها سيرمونها بالفاحشة.
انتشر خبر حمل مريم حتى وصل إلى الناصرة، فنظروا إلى خطيبها يوسف النجار نظرة احتقار وقاطعوه لأنه جنى الثمرة قبل أوانها، ولكن مريم قالت له «إن الله بشّرنى بالمسيح عيسى بن مريم». نام يوسف فجاءه ملك فى نومه قائلاً: «إن ما فى بطن مريم من عند الله وقد اختارك الله لتكفل رسوله وترعاه».
لاقت الأهوال من نظرات رهبان المعبد عندما ظهرت أمارات الحمل، دافع عنها نبى الله زكريا، قرر الرهبان محاكمتها ورجمها، فأوحى الله إليها أن تخرج إلى بيت لحم مع يوسف النجار بحماره، فانطلقا فى سكون الليل ورهبته ليهربا من المدينة المقدسة التى بناها نبى الله داوود، وسارا فى الحقول حتى وصلا إلى بيت لحم وهناك «فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ»، فاحتمت به لتضع وليدها، فراشها الأرض ولحافها السماء.
كان حمله مباركاً ميسراً، وكذلك ولادته، دون مساعدة من أحد أو آلام وصرخات، عادت للناصرة، تجمّع القوم حولها وهى تحمل رضيعها فى ازدراء وكراهية قائلين: «يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِياً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً».
كانت مطمئنة، لم تنطق بكلمة، وأشارت إلى طفلها المبارك فاستشاطوا غضباً: «كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِياً». أتسخرين منا؟! وإذا بالطفل يلجمهم بأول خطاب فى رسالته العظيمة: «إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِياً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً».
انجلت الهموم عن مريم وأسرتها، ورفعت رأسها فى الناصرة، وأخذت تداعب ابنها بين الناس.
ما أعظم أمومتك يا مريم، وما أجمل عطاءك مع ابنك العظيم، أى أم فى التاريخ لم تقدم فى الأمومة مثلك، سلام عليك كلما ذكرنا الأمومة والأمهات، سلام عليك فى جنات الخلد، لقد كنت عظيمة فى كل شىء، أما أمومتك فشىء يفوق الخيال.