اتضح أننا هربنا من «الواقع» لنسلم عقولنا وأسرارنا لمن يتاجر بها فى «العالم الافتراضى»!.. كل قصص الحب التى سطّرتها الفتيات فى «الإنبوكس»، وكل الصور التى تداولنها سراً عبر «الفيس بوك»، بينما ينشرن الأدعية الدينية والشعارات الأخلاقية على صفحاتهن.. اتضح أنها مستباحة!
كل من دشن حملات على «الفيس بوك» يلعن فيها «مراقبة الأمن» واللجان الإلكترونية للسلفيين التى تهدد صفحته (بالمناسبة تعرضت صفحتى لهجوم سلفى الأسبوع الماضى)، ومن يقدم بلاغات ضد بعض الصفحات لإدارة الفيس بوك لغلقها.. حتى سيادة النائب الموقر «جمال العقبى» الذى طرح مشروعاً بقانون لغلق مواقع «التواصل الاجتماعى» أثناء الانتخابات الرئاسية والنيابية (بزعم أنها تؤثر على إرادة الناخبين وتوجهات الرأى العام)، كل هؤلاء اكتشفوا أن أسرارهم المقدسة وآراءهم الفكرية والدينية ومعلوماتهم الشخصية ورسائلهم المختومة بشعار «سرى للغاية».. قد سلموها لـ«مارك زوكربيرج»، مؤسس «الفيس بوك» الذى لم يكن أميناً عليها!
ومؤخراً خرج «مارك» عن صمته، بعد تداعيات فضيحة تسريب الموقع الشهير لبيانات 50 مليوناً من مستخدميه لصالح شركة أبحاث قامت بدورها باستخدام هذه البيانات لصالح حملة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فى انتخابات 2016، ليعلن «مارك» -فى بيان له عبر «فيس بوك»- أنه يتحمل مسئولية اختراق بيانات المستخدمين، مؤكداً القيام بكل ما يلزم لتجنب مثل هذه الأخطاء فى المستقبل وحماية المستخدم.
«مارك» لا يتحرك بنوازع أخلاقية أو التزامات مهنية بقدر ما يحمى «بيزنس» هو الأشهر والأكبر على الشبكة العنكبوتية، خصوصاً بعد أن تنامت حركة «حذف فيس بوك» على نحو مطرد على الإنترنت بسبب فضيحة حصول شركة «كامبريدج أناليتيكا» على معلومات عن 50 مليون مستخدم لـ«فيس بوك» دون علمهم، وفقدت الشبكة الشهيرة أكثر من 50 مليار دولار من قيمتها السوقية خلال هذا الأسبوع، نقلاً عن موقع شبكة «سى إن إن» الأمريكية.
قطعاً يحدث هذا فى الدول المتقدمة، أما نحن فلا نزال نعتبر الفيس بوك هو «الإعلام البديل» الذى يضم السلفى والملحد والوسطى، وينشر كليبات رقص الصبايا فى الانتخابات كما ينشر كليبات تكفير الآخر وفيديوهات سلفية متخلفة تحدثنا عن عدم «دفن» النساء مع الرجال عراة خشية حدوث الفاحشة!
«مارك زوكربيرج» تعهّد، عبر صفحته على «فيس بوك»، باتخاذ سلسلة خطوات لتعزيز حماية بيانات المستخدمين وإصلاح ما وصفه بـ«خرق الثقة» بين شبكة التواصل الاجتماعى والمستخدمين، وقال: «علينا مسئولية لحماية بياناتكم، وإذا لم نتمكن من ذلك فإننا لا نستحق خدمتكم».
وأضاف «زوكربيرج»: «نعمل على فهم ماذا حدث وكيف يمكن ضمان عدم تكراره مجددا».. وتابع بالقول: «لقد أسست فيس بوك وأنا مسئول عما يحدث على منصتنا... سوف نتعلم من هذه التجربة لتعزيز حماية منصتنا وجعلها أكثر أماناً للجميع».
أما نحن فنعتبر الفيس بوك «منصة» لنشر الشائعات وإشاعة الفتنة الطائفية، والتراشق بالألفاظ، والمكايدة واللهو، لأننا -للمرة الثانية- شعوب لا تقدّر قيمة «المعلومة» ولا تدقق فى مدى صحتها، ولا تتحسب لمدى تأثيرها، ولأن بعضنا اعتبر «الفيس بوك» بديلاً لأحزاب المعارضة وجعل منه «جمهورية مستقلة» لدرجة أن شعار البقاء «أون لاين حتى الموت» أصبح شعاراً لنجوم التواصل الاجتماعى، وهم أشخاص عاديون نجوميتهم لا تقاس بالخبرة أو الحكمة أو المعرفة بقدر ما تقاس بالصمود فى أى نقاش والتحدى فى أى معركة كلامية وكثرة «المتابعين».. حتى إن العالم الواقعى يبحث عن نجومه من بينهم، ليكتبوا فى الصحف، ويظهروا على الشاشة.. وكأنه تبادل متابعين بين الواقع والعالم الافتراضى دون قياس منطقى لمصداقية أى نجم من هؤلاء.
نحن أبعد ما نكون عن تعهدات «مارك» بمراقبة أى تطبيق ذى نشاط مشبوه، ووقف أى «مطور» لا يقبل هذا التدقيق، وحظر «المطور» الذى يسىء استخدام المعلومات الشخصية، وتقليل البيانات التى يحصل عليها التطبيق لتقتصر فقط على الاسم والصورة الشخصية والبريد الإلكترونى.. لأننا نتنفس بـ«الإنترنت»! فكثير من بيننا قرروا استبدال واقعهم المأزوم بعالم أكثر رحابة يستوعب تنوعهم واختلافهم (أو لا يستوعب)، المهم أن يشعر كل فرد منهم بأنه محلل سياسى وخبير أمنى وشاعر وكاتب وفنان من طراز لا يسمح بمنافسته.. فقد قرر أنه فوق المنافسة.
«المواطن الفيس بوكى» أقوى من الحكومة وأكثر تأثيراً، لأنه جذاب ومبهر وأكثر انتشاراً من برامج «التوك الشو».. وهو «ديكتاتور» من طراز خاص، يدخل معارك من أجل التسامح بـ«تعصب شديد»! لكن المعركة الوحيدة التى لن يخوضها هى «حذف الفيس بوك». إنها كما سميتها «مواقع الانفصال الاجتماعى».. وكلها كما نردد -على سبيل التهريج- «مراقبة».. ولكن من كبريات الشركات العالمية التى تجيد «التجسس» بأسهل الطرق!.