عناية الله تعالى فيك، لا لشىء منك.. أراد سبحانه بعنايته فيك: ما أظهر فيك من اعتنائه بشأنك.. إذ أوجدك من العدم، وأمدك بالنعم، وخَصَّك بالكرم، وعرَّفك بانفراده بالوحدانية، واتصافه بالصفات العلية، من البقاء والقدم إلى غير ذلك مما أنت محتاج إليه.. وهو سبحانه غنى عنك، فقد كنت عدماً محضاً، ونفياً صرفاً.. فأين كنت حين واجهتك عنايته وقابلتـك رعايته. فى القرآن المجيد: «قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِـن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» (مريم).. «وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّـى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ». (الصافات)
لو تأمل الآدمى فى داخله وفى أحوال الإنسان، واستوعب ما كشفه العلم والفضاء من أسرار الكون وعجائبه وخيراته، لفهم معنى الحياة، وفهم كيف يمكن أن يستوعب معناها وأن يكون فيها كما أراده الخالق البارئ جل شأنه خليفة له سبحانه، يتواصل مع حركة الكون فى صنع وعمار الحياة!
الإنسان منذ أن يعى يغرق دون أن يشعر فى الالتفات إلى ذاته أولاً، ولا يرى بداية ونهاية سواها، وهو دون أن يقلق أو يشك أو يتردد أو يفطن يرد كل ما يحدث داخله إلى ذاته كأنها عنده شجرة المبتدى والمنتهى، إذ فيها يجتمع بالنسبة له كل ما وعى أنه حدث له أو فيه مما هو فى الوجود الفعلى أو التصور ظاهراً أو باطناً من كيانات وأحداث وآمال ومخاوف يشعر بها أو يتصورها أو يتعامل معها عقله أو عواطفه!
المشكلة الكبرى لدى الآدمى منذ وجد حتى الآن هى خضوعه التام للاعتياد فى كل منحى من مناحى حياته.. أى فى كل ما يشعر به أو يتصور أنه يعرفه أو يفهمه أو يعلمه أو يقبله أو يتجنبه أو يرفضه، فالاعتياد إذ يعطينا فرصة لالتقاط الأنفاس والراحة والطمأنينة يسلب منا دون أن نفطن قدراً متزايداً من الفهم أو الإدراك الذى ساقنا إلى ما اعتدنا عليه، بحيث ننتهى إلى التسليم ثم الاعتياد على التسليم بأن واقع الأمر هو ذات المسلك الواقعى الظاهر المحسوس الذى اعتدنا إتيانه.. إذ قد نسينا مع مرور الوقت وكثرة التكرار السبب الذى كنا قد اخترنا من أجله ذلك المسلك!
اللغة تستخدم وتستعبد الآدميين فى أكثر الأحيان، وتقودهم أحياناً إلى حقائق وإبداعات وتقودهم أحياناً إلى أوهام وأحلام وأباطيل وأساطير تتسلط على عقولهم وتتحكم فى سلوكهم وتصرفاتهم، فتأخذ مقام الدين فى الديانات ومكان العلم فى المعارف والعلوم وتأخذ أيضاً مكان نفوذ الفضائل فى الأخلاق والأذواق والعادات، وكثير من ذلك كلام فى كلام صرف لا يعدو الأقوال إلى الأفعال ولا يعبر عن واقع فعلى أو عن فهم بديهى يقبله العقل السليم ولا يأباه أو يلفظه!
من ينظر من بُعد يسمح برؤية كافية إلى حياة البشر فى نهارهم وليلهم على هذه الأرض، سوف يهوله ويفزعه اللغط والضجة والاضطراب والازدحام وألوان الحركة التى تبدو حمقاء فى هذا الجنس بما يدعو أى عاقل غير مقيد بسكنى هذه الأرض إلى الفرار ليتجنب الهوس.. لكننا نحن البشر لا نشعر بحكم قانون العادة! بما نحن فيه وعليه مما عشناه وألفناه آلاف السنين، إذ كلنا قادر على أن يتجاهل تجاهلاً تاماً فى حركاته ومقاصده ويقظته ومنامه وجود ذلك المحيط الصاخب وما يجمعه ذلك المحيط الزاخر الهادر!!
فى الحضارة الحالية سمة عامة تكاد تكون جديدة غير مسبوقة من قبل لم يعرفها البشر وهى توسيع العالم المتاح لنشاطهم إلى غير حد ومحاولة تقديم دنيا جديدة لا حدود لها بدلاً من الدنيا المحدودة التى اعتادوها.. دنيا جديدة سواء فى مداها أو أبعادها أو إمكاناتها أو فرصها أو معارفها أو معلوماتها أو وسائلها أو أدواتها أو أساليبها أو رؤاها!
منذ خُلق الآدميون وهم يتعايشون وما زالوا يتعايشون فى جماعات تتناقل وتتبادل ملايين الملايين من التفاهات والترهات والأقاويل والروايات والدعاوى والمزاعم فارغة المعنى عديمة الأصل! وكأنما كان ذلك فى تقدير الخالق العظيم شيئاً لازماً، ليس عنه غنى لتماسك كل جماعة وإحساس أفرادها بضرورة بقائهم فى حياة مشتركة يتساندون فيها بعضهم لبعض.. وهذا فى الذهن شىء لا يستغنى عنه شعور الفرد بلزومه ليقوى ويظهر شعوره بحياته ولزوم وقيمة حياته.
من آفات التعاجب بالذات واستحسان كل ما يصدر عنها، مبالغة صاحبها فى حساب جاذبيته للغير والتفات الغير إليه، وكثيراً ما يصاحب هذا التعاجب فساد الذوق مع قلة الفهم الذى يؤدى إلى نفور الناس واستثقالهم ظل المتعاجب بنفسه والضيق بعشرته أو مجالسته أو رؤيته!!
مشاكلنا كلها ترجع فيما يبدو إلى أن أفعالنا فى الغالب بدايات فكر وليست نهاياته، فأفعال البشر وقراراتهم يعاصرها أول الأمر وفى أكثر الأحيان حماس الجرأة وحب التجربة والمغامرة.. وهذه بدايات فكرية وشعورية معاً غير محققة لم يشهد الواقع المستمر المستقر بسلامتها ولم ينته الفكر إلى مداه فى شأنها، ذلك لأن النهايات الفكرية أحكام على واقع، لا على فروض وأمارات وبوادر ومقدمات ومحاولات ومشروعات.
يمضى الإنسان مقتبل حياته يجمع الأسباب لتنعمه وأكل وشرب ما يستطيبه ويتمناه، ثم يجاهد بقية حياته بالامتناع عن أطايب الطعام والشراب ليتشبث بالحياة!!
للأسف قد فقد الإنسان إنسانيته فى عصرنا، وبتنا أقرب إلى الهلاك مما كان عليه الناس من قبل.. لأننا عن طريق الحضارة الحالية قد أغرقنا فى الماديات وتمسك الناس بعمق الخبث والبغض وفقدوا ثقة وطمأنينة الإيمان، وأخذوا يتلهفون علانية أو خفية على امتلاك وسائل الدمار الشامل بحجة المحافظة على الكيان.. وهى وسائل دمرت قبل كل شىء إنسانية من فكر فيها ثم من نجح فى اختراع ما اخترع منها ثم من أمر بصنعها ومن قام بصنعها ومن تدرب ودرب على استعمالها ومن خزنها وصانها ومن قام فعلاً باستعمالها!
قد يمكننا العلم الناضج بالكون من الاستفادة الحقيقية التى لا أول لها ولا آخر، من أعماق الأرض التى لم نكد نتجاوز سطحها حتى الآن إلاّ قليلاً قريباً من السطح فى تكرار لا آخر له ولم ينقطع.. مع شغفنا السطحى العام الذى يصر على الاشتراك فيه صباح مساء الحاكم والمحكوم والغنى والفقير والكبير والصغير.. جرى ويجرى ذلك حتى الآن وبعد الآن.. يشهد بهذا تماماً وحدة الأمانى والغايات والأنانية بين حكامنا وأثريائنا وفقرائنا صالحين وطالحين.
كفكف دموع الباكى بدلاً من أن تدعوه للكف عن البكاء!