قبل هوجة يناير بعدة أعوام كان الأستاذ جلال عامر مرشحاً لمجلس الشعب عن حزب التجمع بدائرة المنشية والجمرك فى الإسكندرية. وفى اليوم المحدد لهذه الانتخابات طلب منى الذهاب معه إلى لجنة قريبة من المقهى الذى نتقابل فيه يومياً، وسألنى قبل ذلك هل أدليت بصوتى، فقلت له إن الشرطة تمنع الناس من دخول اللجان حرصاً على النظام!! لم يصدق الأستاذ جلال هذا الكلام، واتهمنى بمحاولة الاستظراف رغم عدم أهليتى لذلك.
المهم أننى ذهبت معه إلى اللجنة القريبة، وهى عبارة عن مدرسة ابتدائية، وكنا وقتها بعد أذان الظهر بقليل، وهناك وجدنا ضابط شرطة برتبة عقيد يصلى الظهر إماماً لصف من السادة صغار الضباط والسادة الأمناء والجنود. انتظرنا حتى فرغ السيد العقيد من أداء الفريضة، ثم ذهبنا إليه، وقال له الأستاذ جلال إنه يرغب فى الدخول للإدلاء بصوته ومعه زميل آخر، وكان العقيد آنذاك لم يزل يسبّح بتراتيل ختم الصلاة، ونظر لنا فى ورع وإيمان شديدين، ثم قال لنا بمنتهى الأدب والذوق والوداعة إن الانتخابات انتهت تماماً ولا داعى لدخولنا اللجان، حيث سيتم الآن نقل الصناديق إلى مراكز الفرز، وكان ذلك نحو الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً!!
أصيب جلال عامر بحالة من الدهشة والغضب، وقال للسيد العقيد إنه فلان الفلانى أحد المرشحين فى هذه الدائرة، فكيف تمنعه الشرطة من دخول اللجنة، وكيف تنتهى الانتخابات قبل موعدها الرسمى بست أو سبع ساعات كاملة، ورد عليه العقيد فى هدوء بالغ وورع جمٍّ قائلاً إن رئيس اللجان أبلغه بانتهاء التصويت وفقاً للكشوف التى امتلأت كلها بتوقيع أصحاب الأسماء المسجلة فيها -ومنهم جلال عامر نفسه- ولا داعى الآن لامتداد العمل باللجنة لأن أحداً جديداً لن يأتى!! ثار جلال عامر، وقال للضابط إنه مرشح واسمه بين المسجلين فى هذه اللجنة ولم يدخلها قط فكيف انتهى التصويت إذاً؟ رد عليه الضابط بهدوء وأدب قائلاً إن «الأوراق أصدق من البشر، والأوراق تقول إن كل الناس حضرت وصوّتت وخلاص، واتفضل روّح يا عم الحاج، انت راجل كبير وعيب نتعامل معاك بطريقة تانية»!! قال العقيد هذا الكلام، ثم تركنا وانصرف لأداء ركعات سنّة الظهر!
قدّم الزعيمان المؤمن والمزمن دعماً انتخابياً ديمقراطياً لجموع الشعب المصرى الكريم يفوق دعم كل محتويات بطاقة التموين ويتفوق أيضاً على دعم البنزين ودعم المواصلات، وغيرها.
فى عهد السادات كان كمبيوتر وزارة الداخلية يتولى صياغة النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية والاستفتاءات الرئاسية قبل عدة أيام أو أسابيع من بدء عمليات التصويت الشعبى! وكان الوزير النبوى إسماعيل يذهب للرئيس السادات قبل أى انتخابات ويعرض على فخامته النتائج النهائية التى سيتم إعلانها رسمياً فور انتهاء الإخوة المواطنين من الإدلاء بأصواتهم فى حرية كاملة وديمقراطية نموذجية!
كان السادات العظيم، بطل الحرب والسلام، زعيماً سبق عصره، وكان يدرك المشاق التى يتحملها أبناؤه المواطنون فى الذهاب إلى اللجان الانتخابية للإدلاء بأصواتهم، ولهذا كلف فخامته وزارة الداخلية بالتصويت بدلاً من الشعب حتى لا يتكبّد المواطنون أعباء جديدة فوق أعباء الحياة اليومية، وحتى لا تضيع أصوات أبنائنا الحمقى لصالح مرشحين أراذل لا يجيدون العمل البرلمانى ولا يحبون الوطن مثل السادات والنبوى!!
الديمقراطية على طريقة السادات هى تفويض «كبير العيلة» فى قيادة كل التيارات الفكرية وتحديد حجم كل منها واختيار من يمثلونها بشرط أن يباركوا كل خطوات الرجل الكبير أو يعارضوها معارضة رمزية مهذبة لا تشمل الطمع فى تداول السلطة أو التدخل فى السياسات الاستراتيجية للنظام، وهى السياسات التى أدّت للقطيعة الكاملة بيننا وبين العرب، وتسببت فى فوضى اقتصادية وفساد بلا حدود، وانتهت بقتل السيد الرئيس على أيدى أبنائه الذين أعادهم للحياة السياسية على حساب اليسار.
فى عهد مبارك تحولت الانتخابات البرلمانية والمحلية والرئاسية والطلابية وسائر الاستفتاءات والاقتراعات الأخرى إلى نوع من الترفيه الفكاهى السيادى الأمنى الذى تقدمه الدولة لأبنائها المواطنين. لم تكن انتخابات عهد مبارك مزوّرة كما يقول الناس، ولكن أجهزة الدولة كانت تتولى التصويت بدلاً من الناس الأحياء والمرضى والموتى، وكانت السلطات تسمح للمواطن الأحمق بدخول اللجان للإدلاء بصوته رغم أن النتيجة النهائية الرسمية لا علاقة لها بصوت هذا المواطن أو غيره. وفى السنوات الأخيرة من العهد المذكور تحولت الانتخابات البرلمانية إلى منحة مالية تقدمها الدولة بشكل غير مباشر لأبنائها الفقراء أصحاب البطاقات الانتخابية الحمراء، ففى الإسكندرية، وفى اليوم الأول من الأسبوع الذى يسبق انتخابات الإعادة بين «الحريرى» مرشح التجمع وبين مرشح الحزب الوطنى فى دائرة كرموز، حضر كثيرون من أبناء الدائرة للمقر الانتخابى للحريرى وقالوا إن مرشح «الوطنى» يدفع لكل منهم خمسين جنيهاً مقابل الصوت الواحد، ولكنهم من أنصار الحريرى ويرغبون فى التصويت له مقابل ثلاثين جنيهاً فقط لأن المبادئ أهم من الفلوس!! وفى دائرة قصر النيل بالقاهرة كنت فى أحد المقاهى الشعبية عصر يوم انتخابات الإعادة بين اثنين من المرشحين المعروفين، ودخل المقهى شخص يعرض مبلغ ثمانمائة جنيه على أى شخص لديه بطاقة انتخابية للتصويت لصالح أحد المرشحين، وحين سألنى عن وضعى فى هذه المسألة قلت له إننى من الإسكندرية وبطاقتى الانتخابية لا تصلح للمشاركة فى تزويرات القاهرة، ولكنه أمهلنى قليلاً حتى يبحث هذه الحالة ووعدنى خيراً لأن المهم وجود البطاقة، وللأسف اضطررت لمغادرة المقهى قبل عودة المندوب الذى عرض علىّ مبلغاً يوازى نصف المرتب الشهرى الذى كنا نتقاضاه من الجامعة فى ذلك الحين!!
لم يكن نظام مبارك سيئاً أو ظالماً فى مجال ترشيد الانتخابات، فقد كان التزوير أو الترشيد يمتد أحياناً لاختيار أحد أو بعض أعضاء أحزاب المعارضة، ومنهم عضو بحزب التجمع نجح فى مجلس الشورى بإحدى دوائر الإسكندرية دون الحصول على صوت واحد حقيقى، وأقام له الحزب الوطنى حفلاً كبيراً بمناسبة هذا النجاح، وسمح أيضاً لقيادات التجمع بإلقاء الخطب النارية ضد النظام والحكومة والحزب الوطنى صاحب الليلة!!!
إحدى الإيجابيات القليلة لثورة يناير إلغاء البطاقة الحمراء ومنح الشعب حق التصويت بالرقم القومى. وفى كل الانتخابات والاستفتاءات التى أجريت منذ 2011 وحتى الآن لم يتحدث أحد عن تزوير أو فضائح انتخابية كالتى شهدناها فى عصرَى مبارك والسادات. صحيح أن عملية شراء الأصوات لم تتوقف حتى الآن، ولكنها بالطبع لم تعد فى بشاعة ما كنا نشهده أيام البطاقة الانتخابية والتزوير المنهجى الرسمى.
الانتخابات الرئاسية الحالية شهدت العديد من السلبيات، إلا أن معظم هذه السلبيات من صنع الشعب، حتى لو كانت فى صالح النظام، وحتى لو شاركت أجهزة الدولة فى صنعها أو تمريرها.
أولى السلبيات الفشل فى العثور على عدد من المرشحين المؤهلين لمنافسة حقيقية على المنصب الرئاسى، وهذا الفشل ناتج عن عقم سياسى يعانى منه المجتمع المدنى بأحزابه وفرقائه ونخبته التى لا تجيد سوى الكلام والشكوى والشوق للمظاهرات والبكاء على التمويل الخارجى الضائع!
ثانية السلبيات المبالغة الشديدة فى الدعاية للمرشح الذى لا ينافسه أحد، وهذه أيضاً إحدى كوارثنا لأن أصحاب هذه الدعاية كلهم تقريباً ينتمون للحزب الوطنى الذى أحرق الثوار مقره الرئيسى ثم فشلوا فى إنتاج كيان سياسى شعبى يملأ فراغه.
ثالثة السلبيات الإلحاح الشديد على الناس للمشاركة فى التصويت، وكان يكفى فى هذا الصدد محاولة تعميق الوعى الديمقراطى بطريقة علمية مبسطة ثم وضع كل مواطن أمام مسئوليته دون الحاجة لجهود الأستاذ حكيم ودعوته «أبوالرجولة» لأداء «النزولة» فى أغنية كوميدية يستحيل ظهورها فى مجتمع على شىء من الوعى السياسى والالتزام القومى.
رابعة السلبيات وأكثرها أهمية التفوق الساحق للطابع الدعائى على نظيره السياسى طوال فترة الإعداد للانتخابات الرئاسية، كل ما شهده الناس يتمثل فى عرض إنجازات النظام التى لا يختلف عليها أحد ولا يجهلها أحد، ولكن أحداً لم يتحدث عن مستقبل البلاد فى المرحلة القادمة، ولا عن أولويات تجاهلناها فى المرحلة الماضية، ولا عن الأداء الشعبى السيئ وكيفية ترشيده، ولا عن العاهات المجتمعية الأزلية التى يعانى منها المصريون ولا نحاول التخلص منها بالتعليم أو الإعلام أو القانون.
رغم هذه السلبيات نجح النظام فى حشد قطاعات عريضة من الناخبين بالوسائل التى تتوافق مع طبائعهم، ونجح فى تحويل الشوارع والميادين إلى حالة احتفالية مبهجة، ونجح فى استعادة فريق كبير من رافضى هذا النوع من الانتخابات ودفعهم لأداء واجبهم القومى بصرف النظر عن انعدام المنافسة الحقيقية، ونجح النظام أيضاً فى احتواء المرشح المسكين الأستاذ «موسى» الذى دفعته الأقدار إلى خوض هذه الانتخابات على أمل أن يصوت له الجن والملائكة والمواطن العاق وليد الشريف!