منذ نحو سبع عشرة سنة كتبت مقالاً للجمهورية بعنوان «ماذا أقول لكم؟»، جعلته بعد ذلك عنواناً للكتاب الذى ضمنته إياه.. لم يكن العنوان غريباً على الموضوع، ولا كان غريباً على ارتباطى بالكلمة منذ مارست الحياة.. فالكلمة كانت عدتنا فى طلب العلم وتحصيله والامتحان فيه، والكلمة كانت ولا تزال عدتى فى المحاماة، شفوية فى المرافعات، أو مكتوبة فى المذكرات.. والكلمة كانت ولا تزال أداتى ووسيلتى فى آلاف المقالات التى كتبتها على مدى العمر ونشرتها صحف ومجلات بغير عد، وهى هى عدتى فيما نشرته من كتب ومؤلفات، حتى لتستطيع أن تقول إن الكلمة حياتى، وإننى اعتدت توقيرها وإجلالها ووزن قيمتها وأثرها والعناية بها ورعايتها فى اختيار لفظها أو الالتفات إلى جرسها، فضلاً عن معانيها وغاياتها والتزامها بما اعتقدت أنه الحق والصواب!
وجوب ارتباط الكلمة بالعمل
على أن هذا الاعتياد على إخراج وكتابة الكلمات، والحفاوة بالكلمة ومبناها ومعناها، لم يصرفنى قط عن وجوب ارتباطها بالعمل والفعل والسلوك.. عن وجوب تعانق الكلمة بالفعل، كتبت للأخبار فى سبعينات القرن الماضى مقالاً بعنوان: «الكلمة والفعل فى الوجدان العربى».. وأعدت الكتابة فى الموضوع أكثر من مرة ساعياً فى كل مرة إلى المزيد من تعميق المعنى الذى أردت لفت الأنظار إليه، وهو وجوب ارتباط الكلمة بالفعل، وإلّا صارت محض طنطنات لفظية تؤول إلى فراغ أو سراب، يصدق عليها قول القرآن المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: ٢ و٣).
أرق لا يفارق!
ولكنى كنت ولا أزال مؤرقاً، ماذا صنعت أنا فى حياتى لأربط هذا الربط الواجب بين الكلمة والفعل والسلوك؟!.. أجل حاولت مستطاعى أن ألتزم فى سلوكى بكل ما دعوت إليه من قيم ومبادئ وأفكار، بيد أن هذا ليس ما أعنيه بالأرق الذى يعترينى من توارى الفعل والعمل فى حياتى إزاء طغيان الكلمة التى تأخذ جل وقتى واهتمامى. الفعل الذى أقصده هو النشاط المادى الذى يحرك الأشياء ويتصل بالنتائج اتصال السبب بالمسبب. هذه السببية التى ينعم بها الخزاف والنجار والحداد والأستورجى والزجَّاج والصائغ والمهندس والبنَّاء والرسَّام والنحَّات والسقَّا والزارع والصانع والفلاح والعامل، والنشاط الذى يحس بثمرته أصحاب الأداء العملى التنفيذى الذى يوالونه تنفيذاً ومتابعةً وتخليقاً وضبطاً.. إلى آخر صور العمل التى لا تقع تحت حصر، وتؤدى بأنشطة مادية صرف يحتل فيها «العمل» و«الفعل» كل صفحة النشاط والصورة، دون انشغال بالكلمات!
الحرمان من ممارسة العمل!
مهما تعمق المُشافِه أو الكاتب أو المؤلف، ومهما استقامت نواياه وأهدافه وغاياته وحججه، ومهما أخلص فى توخى صدق ما يكتبه، ومهما نجح فى توصيل فكره واضحاً مصفّى إلى المتلقين، فإنه محروم من أن يمارس العمل ونشاطه بالمعنى الذى أومأت إليه.
أجل لم تخلُ حياتى من ممارسة العمل والفعل، وظلت صفحات ما أديته وأنجزته حاضرة فى وجدانى، يملأنى تذكرها بالرضا، ولكن بقيت الكلمة ولا تزال هى الأداة الرئيسية لتواصلى مع الحياة.. حتى الأفعال، بدت وكأن دافعها ومحركها وصانعها وموجهها هو الكلمات!
ما قيمة ما نكتبه؟!
كثيراً ما يخالجنى السؤال «ما قيمة ما نكتب وقيمة ما نقول؟».. ربما كان السؤال أقل إلحاحاً وأرضى إجابة فى مرافعات ومذكرات القضايا عندما تثمر الكلمة حُكماً بالبراءة أو نَوْل حق أو رفع ظلم.. ولكن السؤال يبدو للكاتب بلا جواب محسوس، لأنه يطلق ويبث ما يقوله أو يكتبه إلى دوائر مجهولة له من المتلقين. نعم هو يعرف أن الكلمة المبثوثة فى الإذاعات المرئية أو المسموعة يتلقاها آلاف وربما ملايين، وأن الكلمة المنشورة فى صحيفة أو مجلة أو كتاب، قد يقرأها مئات أو آلاف أو عشرات الألوف، ولكن القائل أو الكاتب بمعزل تام عن دائرة المتلقين.. لا يعرف ولا يمكنه أن يعرف من قرأها أو تابعها ومن لم يفعل، ولا يعرف ولا يمكنه أن يعرف أثر الكلمة على من قرأها.. وهل أقنعت أم لم تقنع.. أَجْدَت أم لم تُجْد.. حركت السواكن أم لم تحرك.. أنارت أم لم تُنِر.. غيرت وبدلت أم أنها ذهبت أدراج الرياح دون أن يعبأ بها أو يلتفت إليها أحد!!
صعب جداً أن تستمر فى القول والكتابة وأنت مفصوم عن دنيا المتلقين، وصعب جداً أن تشعر بأن حياتك كلام فى كلام فى كلام.. لا تملك إلّا أن تقول، ولكنك لا تعمل ولا تفعل ولا تملك أن يكون لك دور فى دوائر الفعل والعمل. قد يقول الكاتب لنفسه، وكثيراً ما أصبّر نفسى بذلك، إن الكتابة وتعاطى الفكر والتعبير عنه نوع من العمل والفعل.. وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن صاحب الكلمة مفصوم معزول عن النتيجة لا يراها ولا يحسها. هذه النتيجة التى يقبض عليها ويتمتع بها زارع الأرض ومهندس وعامل البناء، وصانع الخزف والفخار، والنجار والحداد والزجَّاج إلى آخر القائمة الطويلة التى حدثتك عن بعض حَبَّات عقدها الفريد، الذين يلمسون علاقة السببية بين ما يعملون وبين ثمرة وناتج هذه الأعمال!
ماذا أقول لكم؟!
ماذا أقول لكم؟!.. إن الإحساس باللاجدوى كثيراً ما يغمرنى ويجتاحنى ويدفعنى دفعاً للتوقف عن الكتابة.. فبماذا تنفع وبماذا تجدى؟! أليس أجدى للناس أن أقلع عن الكلام لأبحث عن شىء آخر أعمله وأباشر به نشاطاً مادياً أرى وأعاين ثمرته؟!.. لا أخفى أننى أردت ذلك وسعيت إليه، أردت مثلاً إصلاح حال المحاماة ونقابة المحامين، شاعراً فى إخلاص وصدق أننى أملك رؤيتى وأدواتى لإنجاز أعمال تعود بها المحاماة إلى مجدها، ولكن الدهر يأبى إلّا أن يعيدنى إلى دنيا الكلام لا الفعل.. أَتَداوى أحياناً بقول الشاعر:
«لا تلم كَفِّى إذا السيفُ نَبَا * صَحَّ منى العْزُم والدهرُ أَبَى»!
ولكن لماذا يأبى الدهر، وما الآليات الخفية التى تحول بين أصحاب الرؤى والقدرات الإصلاحية لوضع ما لديهم موضع التنفيذ، وماذا فى وسع الكتكوت الفصيح أن يفعل إذا تعب وكَلَّ وأصابه الملل من كثرة الكلام وقلة الجدوى؟!
ظنى أن الكاتب مهما قال وأحسن القول والكتابة قدر مستطاعه، وفكر وكتب وحاول، فإن الغايات تبدو رغم ذلك بعيدة بعيدة، فبماذا تجدى الكلمات؟!
لا يقصد الكاتب ولا يمكن أن يحلم بأن تحل كلماته محل الأفعال أو الأعمال.. وغير مطلوب ولا هو مقبول أن يعيش الناس علقى فى أحضان الكلمات.. واهمٌ من يتصور أن كلماته يمكن أن تغنى عن الأعمال أو تحل محل الأفعال. تلال الكلمات لا تبنى مصنعاً ولا تنجز عملاً، ولا تحقق بذاتها شيئاً.. قصاراها أن توجه أو تحرك، فإذا انفصمت ما عادت توجه أو تحرك أو تحدث أثراً.. تستطيع أن تمسك بشىء من هذه المعانى وأنت تراجع الكلمات الجميلة الموحية لشاعرنا المبدع صلاح عبدالصبور فى رائعته المسرحية الشعرية «مأساة الحلاج».. ترى المجموعة التى أتت لمشهد الحلاج معلقاً.. تجيب من يسألها: «نحن القتلة.. أحببناه فقتلناه.. قتلناه بالكلمات.. أحببنا كلماته أكثر مما أحببناه، فتركناه يموت لكى تبقى الكلمات».. «كنا نلقاه بظهر السوق عطاشى فيروينا من ماء الكلمات.. جوعى فيطاعمنا من أثمار الحكمة».. وإذا سئلوا: ألم يحزنهم فقده؟ أجابوا: «أبكانا أَنَّا فارقناه.. وفرحنا حين ذكرنا أَنَّا علقناه فى كلماته.. ورفعناه فوق الشجرة»!
الفصام المرضى!
من الفصام المرضى أن تحل الكلمات محل الأفعال.. أن يتصور القائل أو يتوهم المتلقى أن الإنجاز يأتى بالكلمات. حينذاك تتوارى الأفعال وتموت الكلمات أو تمرض بأمراض مستعصية، فتشيع المصانعة بالكلمات، وتحقيق الأحلام بالكلمات، وإنجاز الآمال والأمانى بالكلمات، وتحل القضايا والمعضلات بالكلمات، وتُقَام العمائر والمصانع بالكلمات.. ويتقدم أرباب الكلام، ويتراجع ويخلى لهم صُنَّاع الأعمال. هذه أم البلايا والنكبات.. أن يتراجع الفعل والعمل وتتقدم الكلمات!!
إحساس جميل ولكن!
إحساس جميل ولا شك أن تمتلك الكلمة، وأن تنعم باستقطار واعتصار معانيها، وأن تخلص لها فتعطيها من عقلك وفكرك وقلبك ونبضك.. ولكنك لن تستطيع قط أن تمسك بطرفها الآخر.. ليس بوسعك أن تحدد مرفأها ولا خطوط ومسار رحلتها.. هل هى حفرت وبقيت وعاشت وأثرت، أم مضت كحرث البحر ثم طارت لتذروها الرياح؟!
فماذا أقول لكم؟!
لقد أتعبتنى وأعيتنى الكلمات!!