يعرف كل المصريين أن الفسيخ عبارة عن سمك يتم تجفيفه فى الشمس والهواء ويتعرض خلال هذا التجفيف إلى هجوم كاسح من الذباب وسائر الحشرات الأخرى إلى أن يصل لدرجة معينة من العفونة والتحلل، ثم يوضع فى طبقة كثيفة من الملح الذى يتكفل بقتل السموم التى تنشأ من العفن، ثم يتم بعد ذلك تخزينه فى براميل وبيعه بأسعار تزيد على ثلاثة أضعاف سعر السمك الطازج المحترم، وتصل أحياناً إلى أربعة أو خمسة أضعاف سمك البورى غير المتعفن!
كل هذه المعلومات التى يعرفها معظم الناس ويشاهدها بعضهم بنفسه فى المدن والقرى الساحلية الريفية لا تمنع إخواننا المصريين من إدمان هذا النوع من الطعام وبصفة خاصة يوم شم النسيم الذى هو فى الأصل عيد للربيع والزهور وكل الأشياء الجميلة!
قبل شم النسيم بعدة أيام تتفرغ كل البرامج الطبية فى الإذاعة والتليفزيون والصحف لشرح مخاطر أكل الفسيخ، خاصة لمرضى ضغط الدم، ولكنها لا تأمر الناس ولا تنصحهم بالإقلاع عن هذه العادة الغبية، بل تكتفى فقط بمحاولة إقناعهم بعدم الإفراط فى تناول هذا الفسيخ! وفى يوم شم النسيم والأيام التالية له تعلن المستشفيات العامة والخاصة حالة الطوارئ لاستقبال حالات التسمم الغذائى الناتجة عن تناول الفسيخ والملوحة والبصل الأخضر.
المصريون الذين أدمنوا هذه الأطعمة ليسوا جهلة ولا بصمجية ولكن بينهم علماء أجلاء فى شتى فروع المعرفة -ومنها الطب- وبينهم أساتذة جامعات وخبراء حاسب آلى واقتصاد ولغات، وبينهم سفراء وقناصل وأشخاص يحلقون فى الطبقات العليا من المجتمع، ولكن كل هذه الفئات تدمن الفسيخ والبصل والمش والملوحة وسائر الموبقات الغذائية الأخرى وتتلذذ بها.
الفسيخ لا يمثل فى حياة المصريين طعاماً غير منطقى فحسب، ولكنه يستخدم أيضاًَ فى مثل شعبى شهير، يقول المثل الشهير إن أحداً لا يستطيع «أن يصنع من الفسيخ شربات»، ولكن الغالبية العظمى من الهيئات والإدارات تتوقع من العاملين بها تحويل فسيخ الإمكانيات إلى شربات النتائج!
فى مصانع القطاع العام -مثلاً- يطلبون من العمال زيادة الإنتاج بينما لا يهتم أحد بتجديد وصيانة الآلات وتوفير المادة الخام ومستلزمات الإنتاج.
وفى المدارس الحكومية يشكو كل خلق الله من تدهور مستوى التعليم ومن تفشى الدروس الخصوصية بينما لا يتحدث أحد عن الظروف اللاآدمية التى يعمل من خلالها المدرسون.
وفى الجامعات الحكومية يتسلم الأستاذ طلاباً شبه أميين، ثم تطالبه الجامعة بضرورة إنجاح هؤلاء الطلاب حتى لو كانوا غير مؤهلين لدراسة مقررات حقيقية، وحتى لو كانوا لا يحضرون المحاضرات، وحتى لو كانت إمكانيات الكلية لا تسمح بتوفير مقاعد تستوعبهم، وتعج الجامعة بآفات أخرى مثل الكتاب المقرر والتيرم المسخوط الذى لا يكفى لدراسة أى شىء دراسة حقيقية مكتملة، ونظام الامتحانات، ونظام الترقيات والراتب الرمزى الذى يتقاضاه الأستاذ.
حتى فى الوظائف العليا حيث السادة الوزراء والسادة المحافظين يتوقف أى كائن شريف ونظيف ومجتهد من هذه الفئات أمام عقبة الإمكانيات المادية والبشرية وثقافة المجتمع. فى عهد مبارك أوشك عبدالسلام المحجوب على تحقيق معجزة تحويل الفسيخ إلى شربات حين تولى منصب محافظ الإسكندرية لكنه تعرض لهجوم من أصحاب المصالح رغم مرونته الشديدة فى التعامل مع الكبار والصغار ورغم حرصه على وصول ثمار إنجازاته لكل خلق الله.
وفى محافظة الشرقية حاول رضا عبدالسلام تكرار محاولة الفسيخ والشربات وأوشك على النجاح فى إنقاذ المحافظة المنكوبة من الفساد والتخلف والعشوائية.
فى ظل التفاوت الرهيب بين الإمكانيات المتاحة والنتائج المستهدفة يلجأ الناس إلى نظرية «تكبير الدماغ»، يذهب الموظف إلى مكتبه شكلاً ولكنه لا ينجز شيئاً يذكر. ويتوجه المدرس إلى المدرسة للتوقيع فى كشف الحضور ثم يذهب فوراً لمنازل تلاميذ الدروس الخصوصية، ويحرص أستاذ الجامعة على الوجود فى مواعيد المحاضرات حتى يجبر الطلاب على شراء الكتاب المقرر.
ويلتزم الطلاب بحضور الامتحانات حتى يحصل كل منهم على شهادة قد تنفع ذات يوم فى وظيفة أو زواج أو تسهيل مهام اجتماعية أو قانونية.
الأشياء الحقيقية فى مصر قليلة للغاية، بينما الغالبية تؤدى أدوارها وكأنها تشارك فى فيلم سينمائى أو مسلسل رمضانى!
لا شىء يبدو حقيقياً ومنطقياً سوى الوظائف الحديثة مثل طيار الدليفرى وموظف الاتصالات ومطرب المهرجانات وفتيات الملاهى الليلية ولاعب الكرة المحترف والشيف التليفزيونى وسائق «أوبر» و«كريم»، فضلاً عن بعض الشخصيات العامة.
الدولة المصرية تعشق تكوين المجالس العليا رغم أن معظم هذه المجالس لا تقدم أى عائد إيجابى لرعاياها، لماذا لا تفكر الدولة فى استحداث مجلس أعلى جديد أكثر شمولاً من كل مجالسها العبثية الحالية؟ لماذا لا نؤسس مجلساً أعلى لتوصيف كل الوظائف فى المجتمع المصرى ووضع بيان تفصيلى بحقوق وواجبات شاغليها؟ الحكومة تطالب الموظف بواجبات محددة وتحاسبه عليها، ولكنها لا تتحدث إطلاقاً عن الإمكانيات التى ينبغى توفيرها لهذا الموظف حتى يتمكن من إنجاز عمله بنجاح. أحد أجهزة الدولة أفتى منذ بضع سنوات بأن الموظف المصرى يعمل 27 دقيقة فقط كل يوم بينما الموظف اليابانى يعمل ثمانى ساعات على الأقل يومياً، ولم تتحدث هذه الفتوى عن الفارق بين أجر المصرى واليابانى والفارق بين الإمكانيات المتاحة للمصرى واليابانى والفارق فى جودة الحياة بين مصر واليابان.
المواطن المصرى يذهب إلى عمله كل صباح وهو يفكر فى جهة يستدين منها لاستكمال مصاريف الشهر وجهة يستدين منها لأداء ديون الشهر السابق، وطريقة يحصل بها على دخل إضافى، وأسلوب يتجنب به النكد اليومى بينه وبين زوجته، وحكمة يستخدمها فى التعامل مع غباء وحماقة رؤسائه فى العمل، وصبر يستعين به على قرف المواصلات وقرف الزحام داخل وخارج مقر العمل ومقر المعيشة!
الإتاحة التفاؤلية الوحيدة للموظف والعامل المصرى فى الوقت الراهن هى الأهداف التى يحرزها محمد صلاح مع فريق ليفربول، ثم إن محمد صلاح يلعب مرة واحدة فى الأسبوع ويتركنا ستة أيام لإحباطات وهموم الأمر الواقع!!