أعاصير «الخريف العربى»، وتدخلات «الناتو»، قسّمتا الجيش الليبى؛ فريق انضم لمن أُطلق عليهم «الثوار»، والآخر أدرك حقيقة الفوضى، فدافع عن النظام، أطلق الرصاص، فأصاب المتآمر والبرىء، والثالث رفض إطلاق النار حتى لا يصيب من ظنهم متظاهرين، وقطاع أعيته الحيلة فهرب إلى مالطة.. وهكذا، انفرط عقد الجيش، فسقطت الدولة، وهو الهدف الحقيقى لمؤامرة 17 فبراير 2011، وبسقوطها عاد بعض الضباط المنشقين لمصراتة، مسقط رأسهم.. منهم المتشددون مثل العميد زَقَل، قائد «الحرس الوطنى»، الذى يقود مئات الضباط والجنود، لحساب حكومة الإنقاذ التى يرأسها خليفة الغويل، ومنهم من قاد المجالس العسكرية للمدن بالمنطقة الغربية، وتبعتهم تشكيلات من الميليشيا المسلحة، جميعهم يعارضون توحيد الجيش، حفاظاً على مصالحهم.. وبعضهم معتدل مثل العقيد سالم جحا، وهم على استعداد لتقبل الحلول الوسط لتوحيد الجيش، لأن أولويتهم عودة الدولة.. ومنهم من ضل الطريق مثل العميد مصطفى الشركسى، الآمر السابق لمنطقة بنغازى العسكرية، الذى يقود «سرايا الدفاع» الإرهابية التى تمولها قطر، والفريق على كَنَّة، الذى انضم بجماعته لقبيلته «الطوارق» بالجنوب، داعماً انشقاق موسى الكونى، ابن القبيلة، عن المجلس الرئاسى التابع لـ«السراج»، وملوحاً بفصل إقليم فزان عن الوطن الأم!!.. وهناك الضباط أنصار النظام السابق، ومعظمهم يحجمون عن المشاركة، سواء فى «الجيش» بحكم تحفظهم على قيادة «حفتر»، لخروجه على «القذافى»، أو ضمن تشكيلات الثورة المسلحة، التى أطاحت بالنظام.. هذا الانقسام نشأ عنه انقسام تنظيمى بين القيادة العامة للجيش، التابعة لبرلمان طبرق، ورئاسة الأركان العامة بطرابلس، التابعة لـ«السراج».. ناهيك عن الانقسام الجهوى الذى وضع مصراتة وطرابلس فى مواجهة عسكرية ضد بنغازى والزنتان.. واحسرتاه على جيش حمى ليبيا لعقود، وصنع الرخاء لشعب طيب، بات يبكى أيامه دماءً.
البعد العائلى والقبلى فى هيكلة الجيش كان نقطة ضعف خطيرة، تسببت فى تكرار محاولات الانقلاب؛ «العقيد آدم الحواز، ديسمبر 1969، الرائد بشير هوادى والنقيب عمر المحيشى، 1975، من أُعدموا فى أبريل 1977، حسن إشكال، نوفمبر 1985، ضباط ورفلة 1993..»، «القذافى» أسس تشكيلات خارج نطاق هيكل القيادة لتأمين النظام «اللواء الـ32 بقيادة نجله خميس، الكتائب الأمنية، فيلق الحرس الثورى..»، وشكل «الجيش الإسلامى الأفريقى» من عناصر أجنبية، تحولوا بعد سقوطه لمقاتلين بـ«داعش».. التداخل بين هيكل النظام والهيكل العسكرى أدى لاستقالة عدد من كبار القادة، مع بداية الاضطرابات السياسية، ما فكك الجيش وعجّل بسقوط النظام «أحمد قذاف الدم، واللواءان عبدالفتاح يونس، وسليمان محمود..».
عدد الضباط والجنود النظاميين «140.000»، لملم «حفتر» منهم قرابة «35.000»، وأعاد هيكلة الجيش لتندرج داخله كل التشكيلات العسكرية والأمنية، «السراج» بذل جهداً للملمة بقايا جيش المنطقة الغربية، جمع ضباطه، أكتوبر 2016، بطرابلس، لبحث إمكانية إعادة تنظيمهم، وآليات توزيع المناصب، ولكن دون نتائج.. مصراتة تدرك أن وضعها الراهن كقوة عسكرية موضع تخوف واستنكار القبائل، لأنه يخل بتوازنات تقليدية مستقرة، لذلك تسعى إلى تقنين أوضاعها واستثمار نتائج الفوضى، باكتساب وضع مميز بين القبائل وداخل مؤسسات الدولة، مبادرة مصر لـ«توحيد الجيش» سببت إزعاجاً شديداً لها، لأنها تدرك انحياز القاهرة للجيش الوطنى، لذلك تبنى بعض ضباطها مبادرة لتنظيم وتوحيد وإعادة هيكلة الجيش بمناسبة الذكرى الـ77 لتأسيسه، 9 أغسطس 2017، هم يدركون استحالة الالتفاف حولها، ولكنها ورقة ضغط تعزز موقف وفد حكومة الوفاق فى مفاوضات القاهرة، بدليل مسارعة الناطق باسم وزارة الدفاع لحكومة «السراج» بالترحيب بها، وتلته باقى كتائب ميليشيات مصراتة.. والنتيجة المحبطة أن التشكيلات العسكرية أضحت تنبثق عن كيانات سياسية متعارضة المصالح؛ المجلس الرئاسى، البرلمان، حكومة «الغويل»، مصراتة، والزنتان.
فى ليبيا يدركون أن توحيد الجيش هو المقدمة الحتمية لعودة الدولة، وبدونه لا يمكن الاستفتاء على الدستور، أو تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية.. وفى مصر يدركون أن توحيد الجيش الليبى يكفل أمن الحدود الغربية «1115 كم»، وسلامة العمالة المصرية، ويجنبنا صعود التيارات الداعمة للإخوان.. مصر بدأت مبادرة توحيد الجيش بدعوة عدد من المهتمين بالشأن العام، ديسمبر 2016، برعاية اللجنة الوطنية المصرية المعنية بليبيا، التى يرأسها الفريق حجازى، للاتفاق على الثوابت الوطنية، أهمها وحدة ليبيا، وحدة الجيش، ترسيخ التوافق، حرمة الدماء، المصالحة الشاملة، الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، التداول السلمى للسلطة، مكافحة التطرف والإرهاب، رفض التدخل الأجنبى.. الاجتماع التالى كان سياسياً، شارك فيه عقيلة صالح، «حفتر»، و«السراج»، فبراير 2017، تمت فيه مراجعة تشكيل وصلاحيات المجلس الرئاسى، ومنصب القائد الأعلى، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.
مصر دعت وفداً من مصراتة للتفاوض، يوليو 2017، لكنه جاء متأثراً بضغوط المتشددين الذين يميلون لاستغلال الظروف الراهنة فى تحقيق مكاسب سياسية، لذلك فضلت تجنب تعدد قنوات الحوار، وركزت على قضية محورية، مباحثات توحيد الجيش شهدت جولات متعددة، بعضها سياسى عسكرى، وبعضها لجان عسكرية؛ بدايتها أبريل 2017، وآخرها مارس 2018، الحوارات تضمنت قضية إعادة الهيكلة، وإبعادها عن الصراعات العقائدية والجهوية والتجاذبات السياسية، والعلاقة بينها وبين السلطة المدنيّة، وتحديد شخص ومهام القائد العام وشخص ومهام القائد الأعلى، والعلاقة بينهما، وبُحِثت آليات التنفيذ، أهم ما تضمنته إدماج وزارة الدفاع بحكومة طبرق بالقيادة العامة للأركان التابعة لـ«السراج»، إلغاء منصب وزير الدفاع، وإنشاء مجلس للقيادة العامة، يتكون من القائد العام، ورئيس الأركان العامة كنائب له، وعضوية قادة الأسلحة النوعية كافة، والإدارات المهمة، بالإضافة إلى آمرى المناطق العسكرية، بينما سيكون مجلسا الدفاع والأمن القومى بمثابة الأجسام القيادية العليا برئاسة رئيس الدولة.
الاتفاق النهائى كان مقرراً توقيعه 20 مارس، ولكن ذلك لم يتم.. ليس هذا نهاية المطاف، ولكن ينبغى أن نتفهم أن المفاوضين يحملون على كاهلهم تراكمات سبع سنوات من التعبئة والعداء، ومسئولية الدفاع عن مصالح متعارضة، ويدينون بولاءات وارتباطات مع قوى خارجية أهمها قطر وتركيا، بخلاف تأثير الإخوان والضغوط القبلية.. «السراج» أقال محمد الغصرى، المتحدث باسم وزارة الدفاع، بسبب تصريحه الرافض لاجتماع القاهرة ونتائجه، «السويحلى» استقبل قادة «البنيان المرصوص»، بالتزامن مع الاجتماع للاحتجاج، وعلى رأسهم العميد عبدالفتاح قنيدى، الذى فصله «السراج» من الخدمة بسبب تهديداته لمصر نوفمبر 2017، والإخوان حرضوا الجماهير على التظاهر بطرابلس.. وقادة «البنيان المرصوص» هددوا باقتحام العاصمة.. لذلك ينبغى النظر لإيجابيات ما تحقق، فقد تأكد أن هناك من يؤمن بالمصالحة، وأن الجهود المصرية لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية أضحت موضع دعم فرنسى وتفهم إيطالى، وتقبل أمريكى، ومصلحة اقتصادية واستراتيجية لروسيا، ومباركة الأمم المتحدة، وأن الأجواء صارت مهيأة للقاءات تالية، ربما كانت أكثر إيجابية.. مصر يا سادة توحِّد جيش الأشقاء فى ليبيا.