كان الرئيس عبدالفتاح السيسى محقاً حينما أطلق دعوته لتطوير الحياة الحزبية المصرية، عبر اندماج عشرات الأحزاب غير المؤثرة ضمن كيانات تتسم بالفاعلية، وهو الاقتراح الذى طرحه خلال فعاليات منتدى شباب العالم الذى عُقد فى شرم الشيخ، فى نوفمبر الماضى.
لقد أدركنا خطورة أن يكون لدينا هذا العدد الكبير من الأحزاب السياسية التى تعوزها الفاعلية وينقصها التأثير، عندما حل استحقاق الانتخابات الرئاسية، وهو الأمر الذى جعلنا نستعيد أبيات دعبل الخزاعى، التى يقول فيها: «إنِّى لأفْتَحُ عينى حِين افتَحُها على كثير.. ولكنْ لا أرى أَحداً».
سيمكننا استخلاص الكثير من الدروس والعبر من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التى جرت فى شهر مارس الماضى، وأسفرت نتائجها عن فوز كاسح للرئيس السيسى، بنسبة تناهز 97%، وهزيمة منافسه موسى مصطفى موسى، الذى لم يكن سوى مرشح مغمور، أتى إلى المشهد على عجل، بعدما أعلن تأييده للرئيس.
من بين تلك الدروس أن مصر التى تملك أكثر من مائة حزب سياسى مسجل، لم تجد مرشحاً يمثل حزباً قوياً يمكن أن يخوض منافسة تتسم بقدر مناسب من التوازن مع الرئيس صاحب الشعبية الكبيرة.
سيكون هناك الكثير مما يمكن أن يقوله النقاد بخصوص الحالة الاستثنائية التى تمر بها البلاد راهناً، أو شعبية الرئيس الكبيرة التى لا تتيح للمنافسين قواعد تأييد يمكن أن تُصلّب قوام منافسة، أو بعض الإجراءات المثيرة للجدل التى أقصت مرشحين معتبرين عن السباق.
لكن تلك الدعاوى، رغم وجاهة بعضها، لا يمكن أن تطرح إجابة مناسبة عن السؤال المهم: لماذا أخفقت الأحزاب التى يتعدى عددها المائة فى توفير بديل قادر على المنافسة؟
عرفت مصر الحياة الحزبية فى نهايات القرن التاسع عشر، عندما نشأ «الحزب الوطنى»، كتعبير سياسى مؤسسى، يتجاوب مع المطلب السياسى السائد آنذاك، وعنوانه: «الاستقلال».
كانت تلك بداية مثيرة، رغم اتساقها مع مطالب أمة عريقة، تنزع نحو الاستقلال عن الاحتلال البريطانى الذى جثم على صدرها، وأعاق نموها السياسى، وسلب إرادتها، بالنظر إلى فراغ المحيط الإقليمى من شواهد حزبية يمكن أن تمثل دعماً أو إلهاماً. الأحزاب السياسية المتعددة فكرة غربية، ذات نزوع ليبرالى بكل تأكيد، ورغم أن بريطانيا كانت من أولى دول العالم تأسيساً للأحزاب السياسية، فإن ذلك لم يمنع أن يكون أول حزب جماهيرى مصرى فاعل هو حزب «الوفد»، الذى أنشأه الزعيم التاريخى سعد زغلول، ورفاقه، فى مواكبة ثورة 1919، للمطالبة باستقلال البلاد عن المحتل البريطانى.
عرفت مصر حياة حزبية نشطة فى كنف الاحتلال، ونشأ عدد كبير من الأحزاب، التى استطاعت أن تشكل معالم ما عُرف لاحقاً بـ«الحقبة الليبرالية»، حيث كان بعضها مخلصاً لقضية التحرر من الاستعمار البريطانى، بينما كان بعضها الآخر يعكس توجهات أيديولوجية صارمة، أو يتطلع إلى المنافسة من أجل الوصول إلى الحكم، من دون أن يمتلك قاعدة جماهيرية كتلك التى يمتلكها «الوفد».
لكن ذلك الحراك السياسى الحيوى، الذى أثمر إعلان دستور 1923، وبلور تجربة متكاملة فى المقاومة السياسية والتنافس من أجل الوصول إلى السلطة، شهد صدمة كبيرة، أطاحت بعالمه مع اندلاع ثورة 23 يوليو 1952.
رأت الثورة آنذاك أن الأحزاب أفسدت الحياة السياسية، وعطلت تحقيق أمل البلاد فى الاستقلال، وأغرقتها فى الفساد والمماحكات الانتخابية، التى فشلت فى مقابلة تطلعات الجماهير نحو الاستقلال أو التنمية.
ورغم أن الثورة أرست مبادئ ستة كدستور لعملها، وكان من بين تلك المبادئ «إقامة حياة ديمقراطية سليمة»، فإنها حظرت الأحزاب، وأنشأت لاحقاً تنظيماً سياسياً واحداً، وأقامت حكماً شمولياً، حقق إنجازات ضخمة وملموسة، ومُنى بهزائم كارثية، لكنه لم يفتح الباب لإنشاء الأحزاب، أو يرسى قواعد للمنافسة السياسية، أو تداول السلطة.
يربط علماء وباحثون بين التحديث والأحزاب السياسية، بوصفها آلية سلمية ناجعة لتحقيق المشاركة السياسية، وضمان المؤسسية، والتعبئة الاجتماعية، التى من دونها لا يمكن أن يتحقق التحديث، وفق ما يؤكد هنتنجتون.
وكما يرى الباحث السياسى موريس دوفرجيه، فإن التنظيم المؤسسى للأحزاب، وإرساء قواعد منافسة حزبية عادلة، يعززان القدرة على الحشد، وطرح البرامج، واستعراض البدائل، واختيار الأفضل بينها، بما يرسم صورة تتسم بالحداثة والليبرالية.
ربما كان هذا نفسه هو ما فكر فيه الرئيس الراحل أنور السادات، الذى فتح الباب لعودة الحياة الحزبية فى مصر، فى العام 1976، بعدما خرج منتصراً من حرب أكتوبر 1973، وأظهر ولعاً بالحصول على تقدير ومكانة وتعاون مميز من المعسكر الغربى.
لكن الحياة الحزبية التى أنشأها السادات كانت هشة وشكلية، بحيث فتحت الباب واسعاً لهيمنة حزب أوحد على شئون البلاد من جانب، ولم تترك للتيارات المعارضة وسيلة فعالة للتعبير عن رؤاها ومطالبها، وتركت الساحة مستباحة للتيار الدينى، الذى أفسد ما تبقى من الحالة السياسية، عبر استناده الأيديولوجى المخاصم للحداثة والديمقراطية، من جانب آخر.
لكن الانتفاضة التى اندلعت فى 25 يناير 2011 كانت بمنزلة زلزال حقيقى، أثمر انفجاراً حزبياً هائلاً، أدى إلى تلك الحصيلة الضخمة التى تجسدت فى أكثر من مائة حزب سياسى، يمكن ببساطة اعتبارها كماً لا كيفاً، لأنها بكل تأكيد تفتقد الفاعلية.
يؤكد علماء السياسة أن ثمة خمسة مؤشرات تحدد مدى فاعلية الحزب السياسى؛ أولها قدرته على المنافسة من أجل الوصول إلى السلطة، وهو أمر اتضح أن أحزابنا السياسية تفتقده بوضوح خلال الاستحقاق الانتخابى الأخير. وثانيها أن يمتلك قاعدة جماهيرية معتبرة يمكن أن تسانده فى الانتخابات، وهو ما ظهر افتقادنا له خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التى أفضت إلى فوز كاسح لقائمة «فى حب مصر»، التى لا تمثل حزباً سياسياً. وثالثها أن يطور برنامجاً سياسياً قابلاً للتنفيذ، ويتسم بالوضوح، والتمايز عن المنافسين، ورابعها أن يتوفر على درجة من المؤسسية والتنظيم الفعال، وخامسها أن يتمتع بالاستمرارية والتماسك.
حين نستخدم هذه المؤشرات الخمسة فى معاينة الحالة الحزبية المصرية الراهنة لا نجد أن الأحزاب السياسية، التى يتعدى عددها المائة حزب، تتسم بقدر ملائم من الفاعلية السياسية؛ وهو أمر أسهمت فيه الدولة، والمجتمع، وتلك الأحزاب نفسها.
مع استبعاد الأحزاب ذات الإسناد الدينى؛ مثل حزب «النور» السلفى، وحزب «الحرية والعدالة» الذى تم إلغاؤه فى أعقاب انتفاضة 30 يونيو 2013، وبعد إلغاء «الحزب الوطنى الديمقراطى»، الذى كان ذراع مبارك السياسية والجماهيرية، قبل أن تُلطخ صورته، ويتم إقصاؤه، لا نجد أياً من الأحزاب التى يمكن وصفها بأنها تسعى إلى المنافسة على السلطة، أو تمتلك قاعدة جماهيرية صلبة، أو تطرح برامج متمايزة وقابلة للتنفيذ.
والحل أن يتم اندماج تلك الأحزاب فى خمسة أحزاب رئيسية كبرى؛ حزبان لليمين، وحزبان لليسار، وحزب للوسط، وأن تضمن السلطة التنفيذية لها مجالاً حراً ومنفتحاً لكى تؤسس لعملها وتواصلها مع الجمهور.
إذا لم تنجح السياسة المصرية فى إعادة صياغة المشهد الحزبى، ستظل المخاطر كبيرة، والأثمان فادحة.