قبل أيام من الضربة العسكرية «الثلاثية» لمنشآت عسكرية سورية شهدت أنقرة اجتماعاً «ثلاثياً» أيضاً، استضاف فيه الرئيس التركى نظيريه الروسى والإيرانى. الصورة التى ضمت الزعماء الثلاثة دارت على كل المواقع الإخبارية حينها، لكن الأهم أنها طرقت أبواب محررى تقديرات الموقف والمستشارين، الذين يعرضون تقاريرهم على صناع القرار بالدول المعنية أو ذات الارتباط بالحدث.
باعتبار أن تلك التقديرات الموجزة عادة ما تستقى معلوماتها من التقارير الاستخباراتية وتضع فى سطورها الأخيرة ما انتهى إليه الموقف الذى يتم تقدير أبعاده، فقد تضمن ما تم تحريره عن الاجتماع «الثلاثى» المشار إليه بعض الإشارات المهمة، أولها: رغم كونه ليس الأول من نوعه فيما يخص أطرافه، فإن موضوعه ذهب بعيداً لترتيب أوضاع الملف السورى، «ما بعد الغوطة». فاسترداد النظام السورى بشكل شبه نهائى للحزام الذى يطوق العاصمة دمشق، وإنجاز عملية إجلاء ونقل ناجحة للعناصر المسلحة المدعومة تركياً إلى بلدة «جرابلس» فى الشمال الكردى، يرتبان أوضاعاً جديدة، حظيت أثناء الوصول إليها بمباركة روسية وإيرانية، وموافقة ضمنية من النظام السورى، لكنها فى مجمل نتيجتها تسمح لهؤلاء بالجلوس معاً لبحث ما بعدها، وهكذا تسمى ما جرى بأنقرة.
ثانياً: أفصح هذا الاجتماع عن كون تركيا هى الأخرى لديها متطلبات نقل سكانى، ليس فقط فيما يخص «تجميع» الميليشيات المسلحة التابعة لها، فى الشمال الغربى السورى، بل ما يدخل فى عمق ترتيب معادلة الشمال برمته. ووفق هذه المتطلبات وجدت أن ذلك يستوجب المضى قدماً مع الممسكين بمعادلة النقل السكانى، فإيران القائمة عليه، وروسيا التى ترعى وتوافق على غالبية ما يجرى فيه، سيطلبان من تركيا أثماناً عديدة لإدخالها فى هذه المعادلة الجهنمية. مجمل هذا الثمن يعمق ارتباط أنقرة بهذا المحور، ويأخذها بعيداً عن المحور الأمريكى ويزيد الهوة ما بينهما بأكثر مما وصلت إليه.
ثالثاً: جرى هذا الاجتماع «الثلاثى» على مسافة كيلومترات محدودة من قاعدة «إنجرليك» العسكرية، إحدى الدرر الاستراتيجية لـ«حلف الناتو». بكل ما يحمل هذا من دلالات ليست جميعها رمزية، فهى تعكس مجمل ما وصلت إليه أوزان التأثير ومساحات النفوذ للأطراف التى ضمها الاجتماع، ليس على مستقبل الملف السورى وحده، بل يمتد ليشمل الإقليم فى دوائره المؤثرة. وهى معادلة امتداداتها تخصم منطقياً، من مساحات وفضاء وأوزان الطرف المقابل بالمعادلة.
اللقاء الذى كان بمثابة صب الزيت على نيران تضرم منذ شهور فى عواصم الطرف الآخر من المعادلة جعل النقاط الثلاث تستدعى ردة فعل عنوانها الأشمل هو استرداد مساحات الفراغ والوهن التى تمدد فيها الطرف الأول. وعلى خلفية مجموعة من معادلات الاحتقان، جميعها لم تحسم نفسها، أو بمعنى أدق لم تصل لحلول سياسية توافقية، تتقاسم أو ترتب مصالح أطراف المعادلات. وهى محطة متوقعة بالنظر إلى الامتداد الزمنى (7 سنوات) للأزمة السورية، والتعقيد والتطور الهائل لأدوات الصراع ما بين الأطراف، ليصبح الانسداد والتقاطع عاكساً لحجم ما أنتجته الأزمة من تداعيات.
المثير أن تلك المعادلات السياسية معقدة الخيوط ألقيت، بشكل مفاجئ، داخل غرفة العمليات العسكرية الأمريكية، طلباً للخروج منها بحلول ترمم هذا الخلل، الذى شعر به صانع القرار الأمريكى وحلفاؤه. ذريعة استخدام السلاح الكيماوى مثلت ضغطاً إضافياً على العسكريين الذين لم يتيقنوا من حقيقة ما يتم تداوله بمجلس الأمن، فما هو تحت أيديهم على الساحة السورية أن هناك أطرافاً عديدة تورطت خلال سنوات الصراع فى الجرم المشهود، بصورة أو بأخرى. فنظام الأسد استخدمه من قبل، المؤكد منه على الأقل قبيل اتفاقية نقله بمعرفة الروس، والمرات الأخرى التى استخدم فيها المراوغة كى لا يتم ضبطه، ساعده فيها الإيرانيون و«حزب الله»، بأدوار مؤثرة فى النقل والتصنيع والتخزين.
وهذا لم يمنع بعض الميليشيات المسلحة، «داعش» وغيرها، من الوصول إلى امتلاك البعض منه، وإن ظل أقل فى التقنية، واستُخدم من قبلهم بصورة محدودة أيضاً فى السنوات الأولى للصراع، فضلاً عن أن إمكانية استخدامه من «طرف ثالث» وإلصاق التهمة بالنظام، تظل احتمالاً وارداً ومن السهل تنفيذه استخباراتياً. وهذه الاحتمالية لم يستبعدها العسكريون منذ اللحظة الأولى لتحركهم خاصة مع ما كانوا يتابعونه من مشاهد مجلس الأمن، وما يدور فيها من عبثية سياسية من وجهة نظرهم.
لذلك لم يكن عبء إثبات الاستخدام هو المشكلة التى واجهت البنتاجون فعلياً، حيث كان الأمر بلائحة الأهداف المراد التنفيذ بحقها، كى تحقق التوازن السياسى، وتنتج حلولاً لمعادلات تعقدت بما يكفى من وجهة النظر الأمريكية. هذا يودى مباشرة إلى «حرب عالمية» مصغرة على الأقل، وتعد هنا الخسائر الأمريكية المتوقعة هى العبء الحقيقى الذى شغل العسكريين طوال فترة التصعيد السياسى وما استتبعه من شحن مضاد.
استطاع البنتاجون أن يهبط بسقف العملية العسكرية لأدنى مستوياتها، وتمكن من إخراج الأهداف الروسية من اللائحة، ضامناً من نظرائه الروس عدم التداخل، فى مقابل فسحة من الوقت، تمكنهم من إجراء عمليات نقل وإعادة تموضع بداخل المواقع العسكرية المستهدفة. استبعاد الأهداف الإيرانية و«حزب الله» إعادة لكُرة اللهب إلى ملعب السياسة، كى تصحح ما أخفقت لسنوات فى التعامل معه، وعدم المغامرة بـ«2000 عسكرى» أمريكى فى مرمى نيران ردات فعلهما.
تمكن البنتاجون من تقييد حركة بريطانيا وفرنسا وجعل مشاركتهما أقرب للرمزية، التى يمكن استثمارها سياسياً مستقبلاً. وكان استبعاد إسرائيل من المشاركة على جاهزيتها المعلوماتية وحماستها، هو آخر ملمح نجاح يمكن للضربة المحدودة والمركزة أن تحققه رمزياً تجاه الخصوم، وأن تخرج بالولايات المتحدة إلى أوضاع أفضل من سابقتها، من دون توابع أو تعقيدات التصعيد الذى قد يدخل السياسة فى مأزق حقيقى، هى التى بدأت فى صناعته، قبل أن تهرع إلى غرفة العمليات العسكرية طلباً للحل.