ثمة حالة من الهوس ألاحظها خلال الأيام الأخيرة يمكن وصفها بـ«الاقتحام الافتراضى» لمستخدمى «فيس بوك» تدعو إلى الاستغفار والدعاء والصلاة على النبى (صلى الله عليه وسلم). الاقتحام يتم عبر تدوينات يتم تشييرها ونشرها أو رسائل عبر «الإنبوكس» تدعو إلى نشرها لكل من يفتح صفحته من أصدقائك. وتحتال التدوينات بكل ما تفتقت عنه قريحة أصحابها من وسائل لإقناع مستقبل التدوينة أو الرسالة بفعل ما تدعوه إليه، مثل «السرطان أخطر مرض يهدد الإنسان.. تعالوا نستغفر بنية ألا يصيبنا هذا المكروه».. و«هتكسب كتير لو صليت على النبى دلوقتى».. و«ربنا هيحل لك مشاكلك ويحقق لك أحلامك لو استغفرت معانا دلوقتى».
الاستغفار واجب، وكذلك الدعاء والصلاة على النبى (صلى الله عليه وسلم)، لكن الأشخاص الذين يروجون لمثل هذه التدوينات والرسائل لا يفهمون أن الدعاء والاستغفار وذكر الله تعالى شعائر توقف أمامها القرآن الكريم كثيراً. وقد أمر الله تعالى بتعظيم وتبجيل شعائره وعدم ابتذالها بهذه الصورة. يقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: 32)، ويقول: {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ...} (الحج: 30). الدعاء عبادة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60). والاستغفار عبادة: «والمستغفرين بالأسحار»، والذكر عبادة قد تفوق فى قيمتها الصلاة: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر».
ويخطئ من يتصور أن هذه الشعائر الجليلة أساسها الترديد بالقول أو الغمغمة باللسان. الاستغفار -على سبيل المثال- مسألة لا تتوقف عند حد الترديد باللسان، الأهم أن يقلع الإنسان عن ذنب اقترفه فى حق الله، وأن يرد للناس حقوقهم إذا كان قد سلب منها شيئاً. فما معنى أن يقول الإنسان «أستغفر الله العظيم» وقد ظلم هذا وسرق هذا وبخس هذا. الاستغفار معناه رد الحقوق إلى أصحابها والعزم على عدم العودة إلى ظلم النفس أو ظلم الغير. أما ذكر الله فيعنى تذكره ومراقبته فى السر والعلانية والسلوك فى الحياة بوعى أن الله تعالى يسمع ويرى. ذكر الله فى العمل معناه إتقانه، وفى العلم معناه تحكيمه فى الحياة، وفى العلاقات بين البشر معناه الإحسان إلى محسنهم ومسيئهم. وقد جعل الله تعالى ذكره تعالى أكبر من الصلاة. والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من لم تنهَه صلاته فلا صلاة له».
أصحاب هذه الدعوات يريدون تحويل التدين إلى حالة افتراضية. التدين الافتراضى كثير الهمهمة بالاستغفار والدعاء والذكر، سريع النسيان لتعاليم الدين فى أخلاقه وسلوكياته، أما التدين الحقيقى فلا يعتمد على اللكلكة اللفظية أو التمسك بالشكليات، بل يستند إلى روح الإسلام وأخلاقياته وسلوكياته. الكثير من صحابة النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكن أغلبهم من حفاظ القرآن الكريم ولم يؤثَر عنهم حفلات الدعاء والبكاء الجماعى، كما يفعل أصحاب نظرية «المسلم الافتراضى»، ورغم ذلك كان خلقهم أرقى وأعظم. الاعتدال السلوكى والاستقامة الأخلاقية هى جوهر الإسلام.. كفانا دروشة!