«إبشنا»: قرية «السيدات» المنتجة.. صناعات يدوية ومشروعات صغيرة وتدريبات.. و«الست بـ100 راجل»
نادية اختارت تصنيع الكنافة
ذاع صيتها بين القرى المجاورة لها، وعُرف عن نسائها أن الواحدة منهن بـ«100 راجل»، وقد اختيرت من قبَل محافظ بنى سويف، من بين كافة قرى المحافظة، لتكون القرية النموذجية، نظراً لأن أهلها، ولا سيما سيداتها، يكادون لا يكفون عن العمل.
اشتهرت سيدات القرية بالعمل، حتى قيل إنه لا يوجد بينهن واحدة لا تعمل، فبمجرد دخولك قرية «إبشنا»، التابعة لمركز بنى سويف، تجد ذلك واضحاً، فالسيدات قائمات على مشاريعهن المختلفة كما الرجال، ومن بين هؤلاء السيدات كانت «نورة سمير»، صاحبة الـ35 عاماً، التى كانت قد عادت لمنزلها الصغير بعد رحلة عمل دامت لساعات، مرت فيها على بعض المصالح الحكومية وبعض الأهالى، تبيع لهم ما معها من بضاعة تصنعها بيديها، فهى «خياطة» تصنع المفارش، وإلى جانبها «الإكسسوارت» التى تبتاعها منها الفتيات.
داخل غرفة ضيقة جلست متعبة على كرسى خشبى أمام ماكينة خياطتها، وعلى يسارها سرير قديم، ومن خلفها كانت عشة صغيرة تربى فيها طيورها، وبدأت تروى قصتها، مشيرة إلى أنها بدأت العمل منذ نحو 6 أعوام، عندما أصيب زوجها فى حادث أقعده عاماً ونصف العام فى البيت بلا حركة، لم تكن تعلم حينها كيف تتصرف، فكل ما كانت تملكه حينها 500 جنيه فقط، لتبدأ رحلة البحث عن مشروع تقتات منه هى وزوجها وأطفالها الثلاثة.
«نادية» افتتحت «بقالة» برأس مال 300 جنيه وتصنع «الكنافة» و«القطايف» .. و«نورة» خياطة تبيع المفارش والإكسسوارات
اهتدت «نورة» أخيراً إلى ما لم يكن فى حسبانها: «حماتى وأختى فى يوم جم قالوا لى عايزين نشترى أطقم للسراير، فافتكرت إن حماتى عندها مكنة خياطة قديمة، فقلت بدل ما نشتريهم ممكن أعملهم أنا على المكنة». من هنا بدأت «نورة»، وأنجزت بالفعل لحماتها وشقيقتها ما كانتا تريدانه، حتى علم بذلك جيرانها الذين بادروا بالشراء منها، حتى أصبحت توزع ما تقوم بخياطته فى المركز بأكمله، بعد شهور من حياكة أول مفرش لها.
تعانى السيدة الثلاثينية من مرض الانزلاق الغضروفى الذى يمثل عائقاً لها فى عملها على ماكينة الخياطة القديمة التى كانت تعمل عليها، حيث إن يوم عمل واحد كان يأخذ معه يومين من التعب والعلاج، ومن ثم فكرت فى التطوير من خلال شراء ماكينة أحدث تخفف عنها بعض التعب، إلا أنها لم تكن تملك ثمنها البالغ 3250 جنيهاً.
استدانت المبلغ كاملاً، واشترت الماكينة الحديثة، منذ قرابة 5 أشهر، ونجحت فى تسديد جزء كبير من ثمنها، وبقى عليها جزء آخر، ثم بدأت بعد ذلك فى توسيع دائرة توزيعها شيئاً فشيئاً، من خلال بيع منتجاتها فى المدارس والهيئات الحكومية وكذلك البيوت فى القرى المجاورة لها، فضلاً عن تجهيز العرائس، لتختم السيدة حديثها بما تتمناه قائلة: «نفسى أوسع أكتر فى الشغلانة عشان الظروف تتحسن، ويبقى عندى بدل المكنة اتنين وتلاتة، وبقالى فترة عايزة أجيب مكنة سرفلة بس مش عارفة لأنها لوحدها بـ7 آلاف جنيه».
«بدرية» اشتغلت باليومية وعندما تقدمت بها السن اشترت ماكينة لصناعة «الشعرية البلدى».. و«منى» تدرب النساء على صناعة الخضراوات المجففة
فى ناحية أخرى من نواحى القرية، كانت الخمسينية «نادية عيد» واقفة أمام فرن «الكنافة البلدى» الملاصق لباب بيتها الخشبى، تصنع عليه الكنافة طيلة العام وتبيعها فى الأسواق لتساعد زوجها المريض غير القادر على العمل، حيث حكت لنا قصة بداية عملها، مشيرة إلى أنها بدأت بعد مرض زوجها قبل 10 أعوام برأس مال 300 جنيه، وفتحت به حينها دكانة بقالة صغيرة أمام البيت، وأخذت تتوسع شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت، حتى بدأت منذ 4 سنوات فى عمل الكنافة البلدى والقطايف، بعدما علمت أن بها مكسباً لا بأس به.
لم تكتفِ نادية بذلك، فمسئولية البيت التى تقع على عاتقها تدفعها للسعى دائماً لزيادة دخلها، على حد قولها، وبدأت منذ 3 أشهر بتصنيع المخللات، ومن مكسب هذا وذاك، اتجهت إلى مشروع آخر يدرُّ عليها دخلاً «معقول»: «بقيت لما ربنا يرزقنى بحسنة أجيب جدى أو معزة صغيرين أربيهم عندى فوق السطح وأبيعهم لما يكبروا، أو لو المعزة ولدت أبيع ولادها، عشان تبقى حاجة بتساعد معايا».
لدى «نادية» 6 بنات، أغلبهن فى سن الزواج، ما يجعلها تعمل بكل ما لديها من قوة وتلجأ للاستدانة عند زواج إحداهن، وهو ما يهون عليها يوم عملها الطويل، ففى أيام الأحد والخميس، حيث الأيام المخصصة للسوق فى قريتها، تبدأ فى الواحدة بعد منتصف الليل فى تجهيز الكنافة، وبحلول الثامنة تكون قد أخذت مكانها بالسوق وبجوارها بضاعتها من الكنافة والمخلل حتى ينتهى السوق، وفى بقية أيام الأسبوع يكون لها ولبناتها مهمة أخرى فى توزيع بضاعتها على البيوت والمحلات، منذ ساعات الصباح الباكر وحتى نهاية اليوم، لتعود السيدة الخمسينية وتجلس بين بناتها فى دكانتها الصغيرة، تفكر فى كيفية تطوير مشاريعها الصغيرة، خاصة أنها قدمت منذ فترة فى الوحدة المحلية على «قرض» ولم تحصل عليه حتى الآن.
داخل بيت آخر من بيوت قرية «إبشنا»، كانت «بدرية عبدالكريم»، التى ظهرت عقود عمرها الستة واضحة على وجهها، ولم ترحمها التجاعيد، حيث جلست على الأرض غير عابئة بالدقيق الذى غطى عباءتها الداكنة.. تمد يدها إلى ماكينة صغيرة على طاولة مستديرة أمامها، تضع فيها بعض العجين ليخرج من الناحية الأخرى «شعرية بلدى»، تصنعها منذ أعوام لتبيعها فى الأسواق وتساعد بها زوجها «الأرزقى».
منذ نحو 15 عاماً، بدأت «بدرية» تعمل باليومية فى الأراضى الزراعية، وعندما تقدمت بها السن ولم تعد تقدر على هذا العمل، اشترت تلك الماكينة لتصنع عليها «الشعرية البلدى» فى البيت ثم تبيعها. يوم كامل تقضيه «بدرية» فى تجهيز بضاعتها، يبدأ بعد صلاة الفجر، حيث تقوم بتجهيز العجين وتقطيعه وفرده يدوياً، ثم تنتقل بعد ذلك إلى المرحلة الأخرى على ماكينة التصنيع، وفيها يمر العجين بخطوتين، الأولى بإعادة فرده مرة أخرى، والثانية تقطيعه فى شكله النهائى، وبعد الانتهاء من هذه المرحلة تضع ما أنجزته فى الشمس حتى غروبها، ثم فى مرحلة أخيرة تقوم بوضعها داخل الفرن لتحميصها، وبعدها تكون البضاعة جاهزة للبيع فى اليوم التالى.
تقول «بدرية»: «بروح أبيعها فى سوق بنى سويف، بس عشان هى بتاخد وقت فى عمايلها بروح السوق 3 أيام بس فى الأسبوع، وآخر اليوم لما بخلص ممكن أروح أخبز عند الناس فى البيوت عشان تساعد معايا». وإلى جانب صناعة «الشعرية البلدى»، تعرف «بدرية» أيضاً أساسيات الحياكة، وتريد أن تجعل منها مشروعاً آخر لها، إلا أنها لا تملك سعر الماكينة اللازمة لذلك، وعندما تقدمت للحصول على قرض من الوحدة المحلية فاجأوها برد زاد من همِّها، على حد قولها: «قالوا لى انتى كبيرة وماينفعش تاخدى قرض، مع إن المشاريع والقروض دى عاملينها عشان يساعدوا اللى زينا، ولو على الأعمار فكل الناس بتموت مش الكبار بس».
وفى صورة أخرى من صور عمل سيدات قرية «إبشنا»، كان مشروع آخر رعته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، تمثّل فى تدريب سيدات القرية على إنتاج الخضراوات المجففة، ومن بين هؤلاء السيدات كانت الأربعينية «منى شعبان»، من أوائل المتدربين التى اختيرت فيما بعد لتكون واحدة من المسئولين عن تدريب بقية نساء القرية.
تحكى «منى» عن كيفية التدريب قائلة: «بيجيبوا لنا عيّنة من البصل والطماطم، ويدربونا عليها، وعلمونا ازاى نعمل مربات، وازاى نجفف الخضار، زى البسلة والفاصوليا والرمان، وكل يوم كنا بنعمل صنف جديد من الحاجات دى لمدة 8 أيام فى بداية المشروع»، بعد انتهاء «منى» من فترة تدريبها أصبحت مُدربة، هى ومجموعة أخرى معها، حيث يدربن كل يومين مجموعة من 25 سيدة، وتأخذ المتدربة منهن 25 جنيهاً مقابل اليوم الواحد حتى يتشجعن على التدريب، حسب قولها، إلى أن وصل عدد المتدربات فى المشروع حتى الآن نحو 375 سيدة.
وتضيف «منى» قائلة: «الست بعد ما بتتدرب هنا بتعجبها طريقة التجفيف، وبيروحوا يطبقوها فى البيت، بس إحنا عايزين المشروع يكبر شوية ويكون فيه اهتمام بالمنتجات اللى الستات دى بيطلعوها، ويتعمل لها أماكن يبيعوها فيها، خاصة إن الستات دول قد المسئولية، ولما يلاقوا عائد هيشتغلوا أكتر».
ومن جانبه، يقول حسن عبدالتواب، سكرتير الوحدة المحلية بقرية إبشنا، إن رعاية السيدات المنتجات فى القرية بدأت فى شهر أكتوبر الماضى، عندما اجتمع المحافظ بأهل القرية، وطلبت إحدى السيدات منه مساعدتهن فى تسويق منتجاتهن، لتبدأ بعد ذلك سلسلة من المعارض تم تنظيم أولها فى نفس الشهر، ووصل عددها حتى الآن، حسب قوله، إلى 7 معارض، تم تنظيمها فى القرية نفسها، وفى مدينة بنى سويف، ومراكز أخرى، إضافة إلى معرض فى القاهرة.