بينما يغوص المصريون فى مشكلات إعادة بناء ما خربه الإخوان خلال عام واحد فقط، يتبادل الغرب مع الرئيس الإيرانى الجديد بعض إشارات قد تفتح باباً لتغيرات كبرى فى المدى المتوسط، تؤدى إلى معادلات قوة جديدة فى الإقليم، ومن المهم أن نتابعها ونتحسب لنتائجها.
ورغم أن الرئيس الإيرانى لا يمثل سوى سلطة تنفيذية ذات سقف منخفض مقارنة بالسلطات والصلاحيات غير المحدودة للمرشد الأعلى خامنئى، فإن الرئيس الإيرانى الجديد حسن روحانى يتحرك وفى فمه مقولة أن لديه صلاحيات كاملة، لا سيما فى الملف النووى الإيرانى وأنه عازم على انتهاج مقاربة جديدة مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، تحت مسمى اللقاء البنّاء، والتى عرّفها بعدم تجاهل الحقوق المشروعة لإيران والتعامل مع الخارج على أسس من الندية والاحترام المتبادل وتحقيق الربح المتكافئ للجميع. وفى إيران ثمة من يرى أن هذه السياسة هى امتداد أو بالأحرى تطبيق يراعى شروط اللحظة الجارية لمفهوم المرونة البطولية، وهو التعبير الذى استخدمه المرشد الأعلى نفسه قبل سنوات طويلة حين ترجم أحد الكتب العربية عن الإمام الحسن، وأعطى له عنواناً فرعياً هو «المرونة البطولية»، ليعبر به عن أهمية التنازل أو إبداء مرونة فى أمر جوهرى بهدف الاحتفاظ بما يمكن الاحتفاظ به فى لحظة معينة تكون فيها موازين القوى مختلة لصالح الطرف الآخر، ودون أن يعنى ذلك هزيمة بل بطولة. وهؤلاء الذين يقومون بمثل هذا الربط بين المفهومين لا يفعلون هذا الأمر عبثاً، بل يطرحونه باعتباره دليلاً على أن روحانى لا يخرج عن الإطار الذى يرسمه المرشد، أو أن الأخير يوافق على مبادرات روحانى تجاه الشيطان الأكبر.
فهل بالفعل لدى روحانى فرصة تطبيق مثل هذه السياسة التى تتضمن بعضاً من التنازلات فى البرنامج النووى الإيرانى مقابل رفع العقوبات ومن ثم الانخراط مرة أخرى فى البيئة الدولية كدولة عادية بلا عقوبات أو ضغوط أممية أو شكوك فى نواياها النووية؟ إن القيمة الفعلية لسياسة اللقاء البنّاء تكمن فى أنها امتداد لسياسة الانفتاح التى طبقها الرئيس محمد خاتمى قبل ثمانى سنوات، وحينذاك كان روحانى المفاوض المسئول عن الملف النووى مع الغرب ما بين 2003 إلى 2005. وبعد خاتمى جاء الرئيس أحمدى نجاد مطبقاً لسياسة المواجهة مع الغرب والإصرار على استكمال دورة الوقود النووى فى داخل إيران. وقد نجح نجاد بالفعل خلال دورتين رئاسيتين فى تحقيق جزء كبير من هدف الدولة الإيرانية وهو استكمال دورة تخصيب اليورانيوم فى الداخل وحتى نسبة 20%، ولديها منشأة فوردو القريبة من قم وهى الأحدث، والمُقامة تحت الأرض بعمق 72 متراً، ويصعب تدميرها. ويُنظر لها باعتبارها السر الأكبر لدى إيران فى مجال التخصيب النووى.
بيد أن الثمن الذى دفعه الإيرانيون فى عهد الرئيس نجاد كان كبيراً للغاية، فالعقوبات الدولية والأمريكية والأوروبية صُممت لتؤثر فى المدى المتوسط على مفاصل الاقتصاد الإيرانى، لا سيما صناعة النفط والتبادل التجارى مع العالم الخارجى، والبنك المركزى الإيرانى والشركات الصناعية الإيرانية الكبرى. لقد ورث روحانى تركة اقتصادية ثقيلة، وحسب تقرير صادر عن لجنة اقتصادية فى مجلس الشورى الإيرانى فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل 12 مليون عاطل، وارتفعت نسبة التضخم إلى 61% فى الأشهر الأربعة الأولى من 2013، والحكومة مَدينة للمصارف الإيرانية بأكثر من 50 مليار دولار، كما انخفضت القدرة الشرائية للمواطن الإيرانى بنسبة 72% فى الأشهر الستة الماضية، وانكمش الاقتصاد الإيرانى العام الماضى وحده بنسبة 5.4%. ولا يتوافر لدى البنك المركزى الإيرانى الاحتياطى الكافى لتغطية الواردات الضرورية.
وفى ظل هكذا وضع اقتصادى يزداد تأزماً، يعتقد الرئيس روحانى فى تقديم بعض التنازل فى الملف النووى مثل وقف منشأة فوردو مع حق إيران فى امتلاك دورة وقود نووى تخضع للتفتيش الدولى لضمان سلمية البرنامج النووى الإيرانى، وفى المقابل وقف العقوبات الدولية، وبما يشكل صيغة مناسبة لاستعادة وضع طبيعى لإيران دولياً وإقليمياً. وأنه إذا تم ربط هذه الصيغة الخاصة بإيران مع الاقتراب الذى تم بالنسبة لسوريا للتخلص من الأسلحة الكيميائية السورية بإشراف دولى وضمانة روسية، فقد تحدث انفراجة إقليمية كبرى.
بل الأكثر من ذلك لمّح روحانى إلى أن إيران يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً لحل الأزمة السورية سلمياً، مع إشارات مؤكدة بأن الرئيس الأسد لن يترشح مرة أخرى بعد نهاية مدته الراهنة فى صيف العام المقبل. بعبارة أخرى فإن الرئيس روحانى يعد الغرب بالقيام بدور مؤثر فى توفير بيئة إيجابية بالنسبة لمؤتمر «جنيف 2» الخاص بالأزمة السورية، وتحديداً تسهيل اختفاء الرئيس الأسد والمقربين منه من المشهد السورى المستقبلى. وهو أمر يُمكّن إيران من الاحتفاظ بمصالحها الاستراتيجية أو جزء كبير منها فى سوريا الجديدة المتوقعة فى حال نجاح مؤتمر «جنيف 2».
وبالرغم من الجاذبية النسبية التى تتمتع بها أفكار الرئيس روحانى، وتجد صدى إيجابياً من واشنطن وبعض عواصم أوروبية كباريس، فمن اليسير القول إن هناك الكثير من العقبات التى تحول دون نجاحها بالصورة المرجوة. فهناك فجوة عدم ثقة كبيرة بين إيران والأمم المتحدة والمنظمة الدولية للطاقة النووية وعواصم الغرب عموماً، وهو ما يتطلب من طهران القيام بالعديد من المبادرات والتحركات وأيضاً التنازلات الأولية لكى تقنع الغرب وخاصة واشنطن بأن هناك فرصة جيدة لبناء علاقات طبيعية مستقبلاً. ورغم الإشارات الإيجابية من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، فالواضح أنهم يرغبون فى خطوات فعلية من قبيل فتح كل أو معظم المنشآت النووية الإيرانية للتفتيش الدولى دون تأخير، والإعلان الواضح عن استعداد إيران لوقف العمل فى منشأة فوردو للتخصيب، وتقديم ضمانات بأن إيران لن تسمح باستمرار الأسد بعد نهاية مدته. وبالطبع فإن إيران لن تقدم على أى من هذه الخطوات إلا بناء على اتفاق مكتوب يتضمن رفعاً للعقوبات ولو بطريقة متدرجة، وهو الأمر الذى يصعب على الرئيس أوباما الإقدام عليه، قبل أن يحصل على مقابل كبير جداً من إيران يقنع به معارضيه فى الكونجرس وتل أبيب، التى وضعت على لسان رئيس الوزراء نتنياهو عدة شروط، أهمها أن تتخلص إيران من كل دورة الوقود النووى وإغلاق منشآته وتسليم المخزون المخصب لدولة أخرى، وهو الأمر الذى لن تتجاوب معه طهران أبداً. إن رغبة روحانى فى الانفتاح على العالم حوله وتخفيف العزلة الدولية من جانب وفتح ثغرة فى الشكوك الإقليمية من جانب آخر، تعد عناصر إيجابية، ولكنها لا تكفى وحدها ما لم تقترن بشفافية كاملة بالنسبة للبرنامج النووى الإيرانى، فهو أصل المشكلة وهو أيضاً مفتاح الحل، فهل تفعل «إيران روحانى»؟