هل يمكن أن يتكلم شخص ينتمى إلى مؤسسة ما أو إلى حزب ما بمعزل عن انتمائه الشخصى لهذه المؤسسة؟ وبمدى أبعد.. هل يمكن أن نطلب من ذلك الشخص أن يتحدث بموضوعية بعيداً عن انتمائه العضوى لتلك المؤسسة التى ربما يكون هو نفسه أحد صانعى السياسات فيها أو على أقل تقدير منفّذاً لهذه السياسات؟!
الأسئلة السابقة هى أسئلة فرضها الواقع الحالى، والأمثلة كثيرة، خاصة فى مجال الإعلام.. فحدّث ولا حرج، فنجد أن أحدهم أستاذ جامعى مرموق.. دائماً ما يتحدث عن أخلاقيات الإعلام ومهنيته.. وهو أول المخالفين لهذه الأخلاقيات من خلال عمل شركته الخاصة. وآخر يرفع راية العصيان والمعارضة.. رغم أنه تولّى رئاسة مركز أبحاث المؤسسة القومية التى يعمل بها.. مثل هؤلاء لا يتأثرون بما يفعلونه ولا يعترفون به.. تتعالى أصواتهم ضد مؤسساتهم القومية، التى هى مصدر رزقهم الحقيقى، وربما الوحيد.
الطريف أن هؤلاء جميعاً يقومون بتبنّى أفكار المعارضة فى مصر.. ربما بدون تفكير. وفى الوقت نفسه يطالبون غيرهم ممن ينتمون إلى المؤسسات القومية أو إلى الأحزاب أو الحركات السياسية بالموضوعية وعدم (شخصنة) الحديث، خاصة إذا كان الحديث على الهواء مباشرة فى إحدى القنوات الفضائية.
هناك فرق بين (شخصنة) الحديث والحوار بشكل فكرى لتأكيد مرجعية تلك الأفكار وجذورها، وبين التحويل إلى التشهير والإساءة إلى سمعة أى مواطن. فمن الدارج فى الكتابة أن نطرح دائماً أهمية أن نتحاور أو نناقش القضايا والمشكلات بتجرّد من الآراء الشخصية لتكون لدينا القدرة على تحديد أسباب المشكلة، وبالتالى الوصول لسيناريوهات الحلول لاختيار أفضلها.. ولا ينفى ما سبق أن ينحاز كاتب الأفكار لموقف أو اتجاه محدد.
أتبنى طرحاً مختلفاً تماماً، وربما يكون على النقيض من طرح الموضوعية الذى يعتمد الكلام فى العموميات بعيداً عن (شخصنة) الحديث. والفكرة ببساطة هى أن (الذاتية) أو تحديداً الاعتراف بالذاتية هى من أقصى درجات الموضوعية. وذلك مع الأخذ فى الحسبان، أن الكلام السابق يقتصر على أصحاب الرأى الحقيقيين ممن لديهم القدرة على إنتاج أفكار جديدة، أى تلك النخبة التى تقوم بصناعة الأفكار، وليس متّخذى القرارات المبنية على تطبيق تلك الأفكار. فالفئة الأولى تهتم بمضمون الأفكار، والثانية بتطبيقها. وبالتبعية.. نستبعد منهم مَن ينقل الأفكار لينسبها إلى نفسه بعد تعديل المقدمات والصياغات، ونستبعد أيضاً مَن يترجم أفكاراً ويقتبسها دون أن يذكر مصدرها ومرجعها بوضوح. بعد أن تحولت السرقة إلى اقتباس، والنقل إلى ترجمة مشوهة.
إن الاعتراف بالذاتية هو أقصى درجات الموضوعية المتسقة مع الشخصية صاحبة الأفكار الحقيقية المرتكزة على خبرات عديدة وتجارب متنوعة. وهو ما يتعارض الآن مع قاعدة تنتشر بين النخبة المثقفة هذه الأيام وهى تعبير حقيقى عن موقفهم.. بعد أن تحولوا إلى (الذين لا يقولون.. ويزعجهم أن يقول لهم أحد لا.. لا نوافق على رأيكم أو على ما تقولون..)..
نقطة ومن أول السطر.. الحياد ليس له وجود فى عالم الأفكار، ولا يمكن أن يبقى على قيد الحياة طالما هناك اختيارات وأولويات، وتظل الموضوعية هى الإطار الحاكم للذاتية ولقبول الاختلاق والتنوّع.