كنت قد تحدّثت فى المقال السابق عن «مفهوم القوة الذكية»، وأوضحت بشىء من التفصيل أنها مزيج ما بين القوى الناعمة والقوى الخشنة، واستكمالاً للموضوع، فسأتحدث اليوم عن كيفية بناء الاستراتيجية المُثلى لتطبيق القوة الذكية، وسأبدأ من حيث انتهى «جوزيف ناى»، الذى أشار فى كتابه إلى ضرورة عمل الدولة على توفير خمسة متطلبات أساسية لتطبيق استخدام قوتها الذكية بشكل مثالى، وهى: أولاً تحديد المصالح الوطنية العليا، والأمر هنا مرهون بظروف كل دولة على حدة. وثانياً حصر الموارد الذاتية المتوافرة لدى الدولة، وذلك بشقيها (المادى والمعنوى)، وهنا تحدّث «ناى» بشىء من الاستفاضة عن مدى أهمية دراسة كيفية تعظيم تلك الموارد، وكيفية الاستخدام الأمثل لها من أجل توظيفها على أرض الواقع، بما يُحقق المصالح الوطنية المرجوّة، التى تم تحديدها كما ذكرنا مسبقاً. وأما ثالثاً فهو ضرورة الربط الدقيق ما بين الموارد والأفضليات وتحقيق المصلحة الوطنية. ورابعاً يأتى عنصر أو مرحلة الاختيار الأمثل لنوع القوة المستخدمة، وكيفية ممارستها أو تطبيقها لتحقيق المصالح الوطنية المتنوّعة، وهنا أيضاً يشرح «ناى» كيف أنه يمكن للدول أن تتنوع فى استخدام الممارسات أو السياسات المختلفة، كما تستطيع أيضاً أن تجمع بينهما. وأما بالنسبة لخامساً والأخير، فيتحدث «ناى» عن ضرورة تكوين أو وجود مجموعة من العقول التى ستكون مهمتها الأساسية هى القيام بعملية تقييم دائم لـ«القوة الذكية».
ويمكننا بعد كل ما تقدم أن نوجز، فنقول إن «القوة الذكية» يجب أن ترتكز على جناحين أساسيين، وهما:
الجناح الأول يتمثل فى وجود بنية تحتية مطورة ومتطورة وتشمل كلاً من: الصحة، التعليم، الإعلام، الثقافة بشكل عام.. وكل هذا وذاك لن يؤتى ثماره إلا فى وجود أساس ديمقراطى سليم. وأما الجناح الثانى، فيتمثل فى وجود قاعدة متينة من القدرات الوقائية، وكذلك القدرات الحمائية. لأنها فى النهاية ستكون للدولة بمثابة امتلاك لسر اختراع، يمكنها من الاحتفاظ بالمبادرة والاستمرار فى الإبداع.
ولكى نحاول أن نقترب أو نوضح أكثر بشكل عملى بعد هذا السرد النظرى، فقد وجدت أنه ربما يكون من الجيّد جداً أن أوضح ببعض الأمثلة التى عاصرناها مؤخراً فى عالمنا العربى، التى ستكشف كيف استخدمت أمريكا القوة الذكية والمجالات التطبيقية فى استراتيجياتها فى كل من مصر، تونس وليبيا..
فالبنسبة لمصر وتونس: نلاحظ كيفية توظيف القوى الناعمة المتمثلة فى «الأداة التكنولوجية الحديثة - الإنترنت» فى ما حدث من تعبئة جماهيرية قبل وأثناء وبعد حالة تغيير الأنظمة، عبر مواقع التواصل الاجتماعى (فيس بوك، يوتيوب، تويتر.. وغيرها)، وقد بات واضحاً تماماً لنا الآن -خاصة بعد قضية أو فضيحة مارك زوكربيرج الأخيرة، التى ملخصها حصول شركة «كامبريدج أناليتيكا» للاستشارات السياسية على البيانات الشخصية لنحو 50 مليوناً من مستخدمى موقع «الفيس بوك»، واستخدامها لأغراض سياسية وليست تجارية فقط- أنها كلها مواقع تجسّسية لجمع معلومات عن الشعوب، ولها ارتباطات وثيقة بالإدارة الأمريكية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث قامت بعمليات تعبئة للرأى العام المصرى والتونسى، وجمعت الآلاف من المواطنين لإسقاط نظام «بن على» فى تونس، ونظام «مبارك» فى مصر.
ولحديثنا بقية..