يمثل «الماء» ملمحاً أساسياً من ملامح الحياة فى مصر. فمنذ عصر الفراعنة وعلاقة هذا الشعب -وكذا حكومته- بمياه النيل علاقة أساسية. ولو أنك تأملت ما يحكيه القرآن الكريم عن حياة المصريين فى هذا العصر، فستجد أن الماء كان حاضراً بقوة فى كافة تفاصيل الحكاية. كان النهر حاضراً بقوة فى حياة نبى الله «موسى»، حين أوحى الخالق إلى أم موسى أن تُلقى بابنها فى اليمّ حتى تحميه من مذبحة الأطفال التى قرر فرعون القيام بها لما أنبأه العرّافون بميلاد طفل من بنى إسرائيل، سيزول مُلكه على يديه: «وأوحينا إلى أُم موسى أنْ أرضعيه فإذا خِفتِ عليه فألْقِيه فى اليمِّ ولا تَخافِى ولا تَحزَنى».
لجوء المستضعفين ممن يعيشون فوق أرض مصر إلى النيل كوسيلة لحماية الحياة يعكسه هذا الملمح السابق من ملامح القصة. والمتأمل لسورة «القصص» التى ورد فيها هذا الجزء من قصة موسى يجد أن لجوء أم موسى إلى هذا الفعل سبقته الآية الكريمة التى تقول: «ونُريد أنْ نمنَّ على الَّذين استُضْعِفُوا فى الأرضِ ونَجعلَهُم أئمَّةً ونَجعَلَهُم الوَارِثين». الماء كان سراً من أسرار غنى وثراء المصريين، فعاشوا تياهين به، ممتنين للنهر الحنون الذى يسقيهم وينبت أرضهم. عرض القرآن الكريم لحالة التزاحُم على الماء التى كانت تعانى منها شعوب أخرى خارج مصر، فى سياق حديثه عن هروب «موسى» إلى أرض مدين. يقول الله تعالى: «ولمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عليه أُمَّةً مِن النَّاس يَسقونً ووَجَدَ مِن دُونِهم امرأتينِ تَذودانِ قال ما خَطْبُكُما قَالَتَا لا نَسقِى حتَّى يُصدِر الرِّعاءُ وأَبُونا شَيْخٌ كَبيرٌ».
لم تكن قيمة النهر ظاهرةً فقط فى حياة المصريين كشعب، بل تطرَّق القرآن الكريم أيضاً إلى الحديث عن العلاقة بين النهر والعرش الفرعونى. كان فرعون هو الآخر يتيه بالنهر والماء الذى يجرى تحت عرشه. وعندما دعا «موسى» فرعونَ إلى الإيمان بالواحد الأحد حتى يفوز بجنته، ما كان من صاحب العرش إلا أن جمع قومه وقال لهم ما تحكيه الآية التى تقول: «وَنَادَى فِرْعَونُ فِى قَومِهِ قَالَ يَا قَومِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذه الأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ».
وكما كان «الماء» و«النهر» سراً من أسرار حياة الشعب، وملمحاً من ملامح الحكم، كان أيضاً آلة العقاب الإلهى لمن يتكبر ويتعالى ويعاند. فالقصة تختتم بمشهد غرق فرعون ومَن تبعه من جنوده فى الماء: «فَأَخْذَنَاهُ وُجُنُوده فَنَبْذَنَاهُم فِى الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ». فقد فر «موسى» الذى اعتبره فرعون مجرد ساحر وهرع مع قومه إلى الماء. فلما أن وصل إليه ضرب الماء بعصاه فانشق نصفين، سار «موسى» ومَن تبعه بينهما على اليابسة، فلما أدركه «فرعون» قفز وجنوده وراءه، فإذا بالماء يلتئم من جديد ليغرق ومَن معه. ويتعجب المرء أمام حالة البلادة التى أصابت «فرعون» حين قرر العَدْو فى الماء وراء «موسى»، فى وقت كان يؤمن فيه أن «موسى» شق الماء بسحره، متناسياً أن «اللى قسم البحر يعرف يوصله»!.