فى بداياته فى عالم الكرة، لعب النجم محمد صلاح لنادى «المقاولون العرب»، الموهبة كانت ظاهرة على أدائه، لكن أحداً لم يلتفت إليه، عملاً بالقاعدة المصرية: «الكورة أهلى وزمالك». فمن لا يلعب لهذين الناديين يظل مغموراً، حتى يتم التقاطه بواسطة أحدهما، ويحدث أحياناً أن ينتقل لاعب ذو موهبة وقدرة إلى الأهلى أو الزمالك لتنطفئ شعلته داخل أروقتهما، عندما يُقرر واحد من مدربيهم العباقرة أو إدارييهم الأفذاذ -هكذا يعتبرون أنفسهم- رَكنَه على الخط. رحمة الله كانت محيطة بمحمد صلاح، حين شاء أن يلعب لـ«المقاولون»، ويظل مغموراً فى مصر، حتى عرفه أغلب المصريين كنجم عالمى.
المكتشف الحقيقى لموهبة محمد صلاح هو الكابتن حمدى نوح، وهو واحد من نجوم العصر الذهبى لـ«المقاولون». ربما لا يعرفه كثير من أبناء الجيل الحالى، لأن الإعلام والذاكرة الكروية لدينا لا تُخلّد إلا لاعبى الأهلى والزمالك. حمدى نوح سبق وقاد فريق «المقاولون» للفوز بالدورى العام، وبطولة الكأس المصرية والكأس الأفريقية، وكان واحداً من أشهر المهاجمين فى الكرة المصرية. ويبدو أن «صلاح» كان محظوظاً بأن تتجلى موهبته على يد هذا النجم. «نوح» ليس كغيره من نجوم الأهلى والزمالك، الذين يملأون استوديوهات الفضائيات هرياً ورغياً وتحليلاً، بل رجل يعمل، ويجد نفسه فى اكتشاف المواهب الشبيهة به وإعدادها بشكل احترافى يؤدى بها إلى النجاح، كما فعل مع محمد صلاح.
أراد الله تعالى لهذا الشاب أن ينتقل من «المقاولون» للعب فى أندية أوروبا أوائل العشرين من عمره، فنجا من السياقات التى تحكم لعبة كرة القدم فى مصر. تلك السياقات التى تُعلى من قيم المجاملة والواسطة والدلع، والتى تجعل من لاعبينا -مهما يفعلون- مجموعة من الهواة غير القادرين على استيعاب قيم الاحتراف. الهواة فى مصر يسيطرون على كل شىء فى عالم الرياضة، بدءاً من اكتشاف اللاعبين، حتى برامج التحليل الكروى. عناصر اللعبة لدينا يحكمها الهواة، ولو استمر النجم محمد صلاح هنا، لما حقق تلك الإنجازات الضخمة التى تمكن من تحقيقها، لأن النجاح سياق، وليس مجرد قدرة أو موهبة.
شاء الله تعالى أن «ينفد محمد صلاح بجلده» من سياق لا يكترث كثيراً بفكرة «الكفاءة» قدر ما يهتم بأمور أخرى كالتربيط والشللية والاستظراف والقدرة على بناء شبكة علاقات عامة تساعد على فرض اللاعب، بالإضافة بالطبع إلى امتلاك اليد لما يمكن أن تسخو به على المسئولين عن تنجيم لاعبى الكرة فى الإعلام. مجموعة من العناصر تكاملت داخل شخصية «صلاح» فجعلته إنجازاً يعزف على قدمين، أولها الموهبة، وثانيها القدوة الحسنة فى شخص مدربه الأول حمدى نوح، والإفلات من هاويتى الكرة المصرية (الأهلى والزمالك)، والنجاة من سياق اللعبة فى مصر، وتوج اللاعب هذا كله بخلق رفيع، ومحبة لوطنه، وعشقاً للقرية التى أنجبته، وعطفاً يوليه للبسطاء من أبناء بلدته. «صلاح» نموذج لا بد أن يتأمله المصريون جيداً وأن يتعلموا من تجربته، حتى يعرفوا سكك النجاح. فتجربته تمنح أملاً لتلك المواهب الكثيرة التى يحتشد بها تراب المحروسة، وكثيراً ما يعتريها الإحباط، بسبب المناخات التى لا تعتبر بالكفاءة.. الفرصة قادمة.. المهم أن تكون مستعداً لها.. وأن تعرف كيف تحافظ عليها ساعة أن تحوزها.