وهكذا أصبح التاريخ شغلانة وسبوبة و«نيولوك» إعلامياً.. عندما يفرغ المذيع من السياسة، أو على الأصح عندما تنفض السياسة يدها منه، يغيب فترة ثم يعود ليُتحفنا بتغيير المسار والمحتوى إلى السبوبة العظمى، وهى التاريخ الذى يبدو أنه ليس له صاحب فى مصر المحروسة، وكل من يريد أن يملأ برامج فالتاريخ موجود والهلفطة أيضاً موجودة والسبوبة مستمرة. قال المذيع الأول، وهو بجوار «سبيل أم عباس» فى شارع «الصليبة»، إن «من بنى هذا السبيل واحدة ست اسمها بمبة، وهى أم السلطان عباس»، وهكذا ببساطة بلا كتب بلا بحث بلا وجع دماغ، والحكاية سهلة. والحقيقة أن السيد المذيع لو كان أعطى ظهره للسبيل ونظر أمامه لوجد بوابة قديمة لمدرسة «بمبة قادن» الإعدادية للبنات، وهذه السيدة هى زوجة طوسون باشا، ابن محمد على، الذى توفى شاباً صغيراً وتركها أرملة ومعها عباس فى الثانية من عمره، وقامت هى بتشييد هذا السبيل على روح زوجها طوسون. أما قول «السلطان عباس» فهو يشكل صدمة عصبية لكل من يقرأ التاريخ. وإذا نظرنا فى تاريخ سلاطين ابن عثمان من أول مؤسس الإمبراطورية «عثمان غازى بن أرطغرل» عام 1300 تقريباً وحتى آخر سلطان عزله «أتاتورك» عام 1927 عندما ألغى الخلافة، لن نجد اسماً لسلطان يُدعى عباس. وإذا حصرنا أسماء السلاطين المماليك حتى آخرهم (طومان باى) لن نجد سلطاناً باسم عباس. والحقيقة البسيطة أنه عباس باشا الوالى أو عباس الأول الذى تولى حكم مصر بعد وفاة إبراهيم باشا وكان محمد على ما زال على قيد الحياة عام 1848، وقُتل فى قصره فى بنها عام 1854، ولم يكن حتى خديوياً لأن هذا اللقب بدأ مع إسماعيل باشا. وما يثير الغضب والغيظ هو الجهل بأبسط معلومات التاريخ، وهى أن مصر ظلت ولاية تتبع السلطان العثمانى حتى فرض الحماية عام 1914، وهو ما دعا الإنجليز لوضع الأمير حسين كامل على حكم مصر وأطلقوا عليه لقب «السلطان» ليؤكدوا عزل مصر عن سلطة العثمانيين، ولكنه الاستسهال والاستهزاء بالمشاهدين والإحساس بأنه ليس هناك من يراجع أو يحاسب أىّ مذيع يتسبب بسبوبة ليس لها صاحب.. وقدرُنا أن نصرخ من الإعلام بعد أن صرخنا من المناهج.
أما المذيع الثانى فيبدو أنه وقع على كتاب صغير به بعض النتف البسيطة عن بعض الشخصيات والوقائع التاريخية، فقال -لا فُض فوه- فى إحدى الحلقات: «محمد على يشنق حجاج الخضرى لأنه أدرك أنه لا يأمن على نفسه مع وجود حجاج، وعلّقه على المشنقة خوفاً منه»، وسرد بعض الوقائع فى الوقت السابق على تولية محمد على بشكل متداخل وملخبط وغير حقيقى عن الوالى خورشيد وحصار القلعة وتولية محمد على، والحقيقة أن التاريخ لا يُقرأ من كتب ملخصة صغيرة تحمل آراء أصحابها بعيداً عن وقائع التاريخ، ولا يصح أن يُطرح فى الإعلام بهذا الشكل المهلهل على أساس أن الناس مش فاهمة حاجة وكله عند العرب صابون.
منذ عدة أعوام سألت أحد كبار أساتذة التاريخ عن قول مأثور يتردد فى كل المراجع الحديثة وفى المناهج طبعاً يقول إن «محمد على قضى على الزعامات الشعبية ونفى عمر مكرم وقتل حجاج الخضرى»، مع أن الحدثين بينهما سبع سنوات لأن عمر مكرم نُفى عام 1809 وحجاج شُنق 1816. اندهش الأستاذ الدكتور، واعتبر أننى اكتشفت اكتشافاً تاريخياً رغم أن هذا مذكور بالتفاصيل عند «الجبرتى» و«الرافعى»، وعلى هذا الأساس لماذا انتظر محمد على 11 عاماً حتى شعر بخطر حجاج عليه وقرر شنقه، ولماذا لم يشنقه فور توليه حكم مصر عام 1805؟! والحقيقة أنه لا توجد علاقة من قريب أو بعيد بين محمد على وشنق حجاج، يقول «الجبرتى»: «فى ليلة الخميس 17 رمضان طلب المحتسب حجاج الخضرى وأخذه إلى الجمالية وشنقه على السبيل المجاور لحارة المبيضة وقت السحور». وعلق «الجبرتى»: «قُتل مظلوماً لحقد سابق وزجراً لغيره». وحجاج الخضرى لم يكن بائع خضار، ولكنه كان شيخ طوائف الخضرية، وهو منصب يشبه منصب النقيب، وهو أحد ثلاثة يُعتبرون من الزعامات الشعبية هو وابن شمعة، شيخ طائفة الجزارين، وثالثهم إسماعيل جودة.. كانوا من رجال عمر مكرم عندما قرر هو والعلماء عزل خورشيد الوالى فى بيت القاضى، ومعهم أربعون ألفاً من المصريين، ثم توجهوا لمنزل محمد على فى الأزبكية وولوه هناك فى نفس اليوم 13 مايو 1805، ثم أرسلوا عريضة للسلطان يطلبون منه أن يلبى رغبة الرعية فى اختيار محمد على. وعندما أرسلوا إلى خورشيد يخبرونه بعزله صرخ وسبّ وقال: أنا توليت من لدى السلطان ولا أُعزل بأمر الفلاحين، وقرر الحرب، وكان حصار القلعة الذى دام أكثر من أربعين يوماً من الشعب وفرقتى الألبان الموالين لمحمد على، حتى جاء قرار السلطان فى 9 يوليو 1805، وأظهر حجاج بطولة كبيرة أثناء الحصار، الأولى: فى قتال قافلة كبيرة كانت آتية لمساعدة خورشيد، واستولى عليها هو وأعوانه، وكانت مكونة من ستين جملاً محملاً بالأسلحة والطعام، والثانية: عندما قبض على جاسوس معه رسالة ليكشف مؤامرة بين الألفى والبرديسى وسلحدار خورشيد الوالى. بعد تولية محمد على اختفى حجاج وقيل إنه ذهب إلى يافا، ثم عاد وانضم للألفى بك، ثم تركه وقيل طرده الألفى، ثم عاد إلى المحروسة وطلب له عمر مكرم الأمان من محمد على بسبب انضمامه للألفى عدو محمد على اللدود، وكان خوفه من محمد على بسبب الألفى وعلاقته السابقة به. ومن بين سطور الأحداث نجد أن فرقة الألبان التى كانت تحارب المصريين بأمر خورشيد قد انضمت بعد ذلك لمحمد على، وكان لهذه الفرقة واقعة مع حجاج ورجاله عند جامع ابن طولون، وقتل حجاج منهم الكثير، والمحتسب الذى قرر شنق حجاج فجأة كان ألبانياً، ويبدو أنه كان هناك ثأر قديم بينه وبين حجاج، وهذا يفسر قول الجبرتى عن سبب شنق حجاج «لحقد سابق»، هذه هى قصة حجاج الخضرى، وقد بحثت فى عدد هائل من الكتب عن أى معلومات أخرى عنه ولم أجد سوى الجبرتى فقط. وأحداث التاريخ لا بد أن تُقرأ بشكل شامل وأن لا تُقتطع الأحداث فى ملخصات مبتورة ويتم تفسيرها على الكيف والمزاج وليس عن دراسة وبحث. حضرات السادة المذيعين.. الرحمة حلوة.