عثمان محمد عثمان: ليس هذا وقت المطالبة بالعدالة الاجتماعية والثورة المطلوبة فى التعليم والصحة لا يمكن تأجيلها
الدكتور عثمان محمد عثمان
قال الدكتور عثمان محمد عثمان، وزير التخطيط والتنمية الاقتصادية الأسبق، إن إصلاح الأوضاع الاقتصادية المختلة يتطلب فى المدى المتوسط مواصلة ضبط المؤشرات المالية والنقدية دون الالتفات لأى دعوات بالتوقف تحججاً بمعاناة الناس، موضحاً أن تحسين مستوى المعيشة لا يتحقق فى ظل معدلات تضخم مرتفعة، وسبب التضخم العجز فى الموازنة العامة وميزان المدفوعات، وضبط هذا العجز يتطلب خفض الدعم، لأنه البند الوحيد الذى يمكن الاقتراب منه.
وزير التخطيط الأسبق لـ«الوطن»: أصحاب رؤوس الأموال عازفون عن التصنيع ويكتفون بالاستيراد
وتابع «عثمان» فى حواره لـ«الوطن»، أن تحقيق عدالة اجتماعية بالمعنى الشامل فى ظل حالة ركود وقصور اقتصادى مستحيل، مضيفاً أن الأولوية الآن لزيادة معدل النمو وخفض معدل البطالة مع خلق فرص عمل يولدها القطاع الخاص فى قطاع الصناعات التحويلية، وقال: «نحن ندور فى دوائر مغلقة، فالمواطن يعانى من الغلاء وتراجع مستوى المعيشة، وإصلاح الأحوال على المدى المتوسط والأبعد يقتضى أن نعانى قليلاً ونصبر على ذلك، وتعميم الشعور بالمعاناة لا يفيد، فليس هناك دولة تدعم كل فئات الشعب».. إلى نص الحوار.
كيف ترى الأولويات الاقتصادية فى المرحلة المقبلة؟
- يمكن أن نقسم المرحلة المقبلة إلى فترتين: السنتين المقبلتين ثم الأجل الأبعد، فعلى المدى القصير يجب حسم مسألتين، أولاهما الاختيار بين مطلب الاستقرار المالى والنقدى من ناحية والرغبة فى التنمية الاقتصادية المستدامة من ناحية أخرى، والمسألة الثانية إعطاء الأولوية لمتطلبات النمو الاقتصادى المرتفع من ناحية أو تفضيل العدالة الاجتماعية من ناحية أخرى.
وهل يوجد تناقض أساساً بين هذه الاختيارات؟
- نظرياً، لا يوجد تناقض بين الاستقرار المالى والنقدى وتحقيق التنمية، بل أكثر من هذا، لا أحد يستطيع تحقيق تقدم اقتصادى مع وجود اختلالات نقدية ومالية، هذا مستحيل، ولا يمكن تحقيق عدالة اجتماعية بالمعنى الشامل فى ظل حالة ركود اقتصادى وبطالة، مستحيل، وهذه الاستحالة توضح لنا الأولويات التى تسأل عليها، وتكشف لنا عما هو أكثر إلحاحاً خلال الفترة المقبلة.
ما سبب هذه الاستحالة؟ هل يمكن أن توضح مقصدك بأمثلة بسيطة؟
- لا شك فى أن أى حكومة تتطلع لتحسين معيشة مواطنيها، وهو ما لا يمكن أن يتحقق فى ظل معدلات تضخم مرتفعة، لأن التضخم يعنى الغلاء وارتفاع الأسعار وبالتالى تآكل الدخل خصوصاً لأصحاب الدخول الثابتة والفقراء، ولن تعوضهم أى زيادات فى دخولهم، لأن نتيجة التضخم دائماً هى انخفاض القوة الشرائية للمستهلكين، ومن هنا يكون المدخل للسياسة الاقتصادية السليمة هو كبح جماح التضخم والعمل على استقرار المستوى العام للأسعار، والسبب الأساسى وراء ارتفاع معدلات التضخم هو وجود اختلالات مالية ونقدية تتمثل فى عجز الموازنة العامة وعجز ميزان المدفوعات. استمرار هذه الاختلالات يؤدى إلى تواصل حالة التضخم الذى ينعكس فى تفاقم العجز وهكذا فى دائرة خبيثة.
إذن لتحسين المعيشة لا بد من ضبط التضخم ما يحتاج لضبط عجز الموازنة وميزان المدفوعات؟
- صحيح. نعرف جميعاً أن موجة الغلاء فى الفترة الماضية ارتبطت بارتفاع العجز فى الموازنة العامة بنسبة كبيرة، كما أدت إلى تدهور قيمة الجنيه، وأدى تعويم الجنيه لمزيد من ارتفاع الأسعار، عجز الموازنة هو الفارق بين الإيرادات والمصروفات العامة، وحتى نعالجه علينا بزيادة الإيرادات وتقليل المصروفات، زيادة الإيرادات ضرورة ولكنها صعبة على المدى القريب والمتوسط، تبقى المصروفات، المصروفات مقسمة إلى 4 بنود رئيسية، هى الأجور وخدمة الدين والدعم والاستثمار، البند الوحيد الذى يمكن التصرف فيه هو بند الدعم الذى بلغ 332 مليار جنيه فى آخر موازنة، مقارنة بـ266 مليار جنيه للأجور، للنزول بنسبة العجز إلى حدود 8% خلال السنتين المقبلتين يستلزم إعادة هيكلة مخصصات الدعم فى حدود اعتمادات الأجور على الأكثر، ونفس الأمر بالنسبة للعجز فى الميزان الخارجى، صحيح أنه يعود إلى انخفاض الحصيلة من إيرادات السياحة والتحويلات لكن أحد أسبابه أيضاً استمرار الزيادة فى الواردات من كل شىء رغم تباطؤ عجلة النمو الاقتصادى، ومن ثم يدخل فى نطاق الإصلاح النقدى ليس فقط ضمان مرونة سعر الصرف ولكن إعادة هيكلة سياسات التجارة الخارجية، وتدعيم الجهاز المصرفى.
الطبقة المتوسطة تتضرر من تقليص الدعم وعليها أن تتحمل وتضحى حتى تنصلح الأحوال.. وتعميم الشعور بالمعاناة يموه على الأولويات.. ويجب إعطاء الأولوية لزيادة معدل النمو وخفض نسبة البطالة.. و«الاستثمار» لا يحتاج إلى قانون خاص
ولماذا لا تقترب من البنود الأخرى؟
- بغض النظر عن رأيى الشخصى بضرورة تجميد الزيادة فى الأجور لمدة عامين حتى تنضبط الأمور، لكن عملياً يصعب على الحكومة تنفيذ ذلك ولا يمكن لها التأخر فى سداد خدمة الدين وإلا وقعت فى مصيدة الديون، وبند الاستثمار أقل البنود حجماً ويتعامل مع مشروعات ضرورية لا يمكن تقليصها حتى تستمر الحياة، فلا يتبقى أمامك إلاّ خفض الدعم، لأن الدعم هدفه حماية غير القادرين أى الفقراء، وفقاً لأى معايير وطنية أو دولية، ما يعنى قصر الدعم عليهم وليس تقديمه لكل الشعب، صحيح أن الشريحتين المتوسطة والعليا من الطبقة المتوسطة ستتضرران من تقليص الدعم، لكن عليها أن تتحمل وتضحى حتى تنصلح الأحوال، وصلاح الأحوال فى ذهاب الدعم لمن يستحقه فقط، وتعميم الشعور بالمعاناة لا يفيد ويموه على الأولويات.
معنى ذلك أن تحسين مستوى المعيشة مرهون بتحمل المعاناة لفترة من الزمن؟
- نعم، فالمواطن يعانى من الغلاء وتراجع مستوى المعيشة، وإصلاح الأحوال على المدى المتوسط والأبعد يقتضى أن نعانى قليلاً ونصبر على ذلك، نحن ندور فى دوائر مغلقة، لأننا نريد تحقيق كل شىء فى نفس الوقت، وإعادة هيكلة الإنفاق العام لا تعنى بالضرورة شد الأحزمة والتقشف وإنما حسن تخصيص الموارد، الشىء الأهم يجىء أولاً.
الأولوية الأولى، كما ترى إذن، هى الاهتمام بضبط المؤشرات المالية والنقدية دون الالتفات لأى دعوات بالتوقف عن ذلك تحججاً بمعاناة الناس، ماذا عن الأولوية الثانية؟
- الانتقال بجدية من مجتمع استهلاكى، فى ظل وجود فقر، إلى مجتمع منتج، وألاحظ أن الإحساس العام بعد تحقيق هدف محاصرة الإرهاب ودرجة عالية من الاستقرار الأمنى وتثبيت الدولة، الذى جسده الإجماع الشعبى على الرئيس السيسى، انعكس فى ارتفاع سقف التوقعات والمطالب الاقتصادية والاجتماعية، هذا ليس وقت المطالبة بالعدالة الاجتماعية التى هى مطلب طبيعى ونبيل، وأعنى هنا العدالة الاجتماعية التى يقصد بها البعض إعادة توزيع الثروة والدخل، وأن الجميع يبقوا زى بعض، لأن الأولوية الآن هى زيادة معدل النمو وخفض معدل البطالة وتوفير فرص عمل وأن يصبح كل مواطن قادراً على الحصول على مصدر حقيقى للدخل، أى عمل حقيقى وليس وظيفة فى الجهاز الإدارى للدولة المتضخم، وتوفير فرص العمل مسئولية القطاع الخاص الذى يجب تشجيعه على التركيز على مصادر الإنتاج الحقيقى خصوصاً من الصناعات التحويلية.
وهل هذه الأولوية محل خلاف؟
- طبعاً، فما زال هناك من يقول إن النمو ليس مهماً، العدالة الاجتماعية التى تعنى توفير فرص عمل لن تتحقق إلا بالنمو الملحوظ فى الناتج المحلى، والنمو لا يتحقق إلاّ بالاستثمار، وفى هذه الحالة صاحب العمل والمستثمر يكسب والعامل يكسب.
الخلاف فى حدود معلوماتى ليس عن أهمية النمو، لكن عن ضرورة أن يقترن بعدالة التوزيع؟
- النمو بطبيعته فى مصر يضمن توزيعاً معقولاً للدخل، فالنمو العالى يعنى استثمارات أكثر وبالتالى فرص عمل أكثر.
تقصد تساقط ثمار النمو؟
- لا، لأن تساقط ثمار النمو يعنى إعادة توزيع الدخل فى اقتصاد متقدم، ما أقصده أن النمو الاقتصادى فى مصر يؤدى لتوزيع مباشر لعوائده فى صورة وظائف وأجور، فمع انطلاق أى مشروع وبناء مصنع -مثلاً- تحصل شركات المقاولات والموردون على مستحقاتهم والعمال على أجورهم كل شهر، من المهم أن نفهم أن النمو يتحقق من أنشطة متعددة، صناعة وزراعة وخدمات غيرها، وأى نشاط اقتصادى عبارة عن رأسمال وعمل، والحديث عن أن العائد غير متوازن لأنه يصب بنسبة أكبر بكثير لصالح رأس المال على حساب العمال لم يعد قائماً الآن بهذه الصورة، فلم يعد من الممكن وجود رأسمالية مستغلة تطحن العامل، خصوصاً فى أى اقتصاد منضبط، ولو وجدت يمكن علاجها، المهم أن يكون هناك حركة ونمو مع تعديل مصادر النمو لتكون من الصناعة، أما فى حالتنا فلا الرأسمالى يربح ولا العامل يربح، لأنه لا يوجد نشاط حقيقى من أساسه، وأصحاب رؤوس الأموال عازفون عن الإنتاج من الصناعات التحويلية ويكتفون بالاستيراد والتجارة، وهذا موضع الخلل الحقيقى.
ولماذا العزوف عن الصناعة؟
-لا توجد صناعات تحويلية، لأن التجار هم أصحاب المصالح يمثلون جماعة ضغط، هؤلاء يربحون كثيراً من الاستيراد ولا يوجد ما يدعوهم للتحول لأنشطة صناعية حقيقية، ولو حاسبت كل كبار المستوردين «بحق ربنا» ودفعتهم الضرائب المستحقة على أرباحهم الفاحشة ربما فكروا وقتها لتغيير نشاطهم، واتجهوا للتصنيع، لكن هذا لا يحدث لأن لا أحد يدفع ما عليه من ضرائب فعلية، لأن الحكومة عاجزة عن هذا نتيجة عدم وجود سجلات تجارية دقيقة، فى الحقيقة فإن المنظومة كلها مختلة، ومنذ سنوات طويلة وحتى الآن يأتى المسافر إلى المطار فيسأله موظف الجمارك: هل معك ما يستوجب دفع رسوم؟ فتكون الإجابة لا، رغم أنه يحمل مثلاً 10 أجهزة محمول.
هل تعتقد أن هناك أولويات أخرى يجب الانتباه إليها؟
- لم أتحدث عن الأمن الذى يمثل أهم الأولويات باعتباره أمراً محسوماً وليس محل خلاف، ويجب أن يظل كذلك لأنه لا مجال للحديث عن الاستثمار بدون أمن، ومن المهم جداً ألا يعوقنا الإرهاب عن التقدم، وهذا ما فعلته دول أخرى، فالإرهاب عندنا الآن ليس أسوأ مما فعله الجيش الأحمر فى إنجلترا فى السبعينات والثمانيات، ومرة أخرى لا مجال للحديث عن تحسين أحوال المعيشة مع وجود عجز فى الميزانية وميزان المدفوعات بسبب إنفاق لا يتوقف على بنود غير ضرورية، ولا مجال للحديث عن العدالة قبل تحقيق نسب نمو لا تقل عن 7% لعدة سنوات متصلة وانخفاض البطالة لأقل من 5%.
هل تتفاءل خيراً بقانون الاستثمار الجديد؟
- رأيى أن الاستثمار لا يحتاج لأى إطار تنظيمى خاص مثل قانون الاستثمار أو غيره، إذ يجب أن يكون الاستثمار متاحاً لكل من يرغب فيه ويخضع للقوانين العامة دون استثناءات، لأن هذه الاستثناءات ثبت بالتجربة أنها لا تدوم وتظل موضع مطاردة وملاحقة، فقد سن قانون تشجيع الاستثمار ثم تم إلغاؤه وتم سن قانون للحوافز الضريبية، وتم إلغاؤه كما تم إلغاء المناطق الحرة.
اقتصر حديثك حتى الآن على أولويات السياسة الاقتصادية الملحة ماذا عن الفترة الأطول؟
- المدى الطويل يبدأ الآن أيضاً، الثورة المطلوبة فى التعليم أو الرعاية الصحية ليست من الأمور التى يمكن تأجيلها للمستقبل، من تجربتى لم يكن قصور الموارد هو المسئول عن تدهور هذه الخدمات، ولكن نمط تخصيص الموارد حتى داخل هذه القطاعات، فمثلاً الأهم من بناء مدارس لا يذهب التلاميذ إليها هو جودة الخدمات، مما يتطلب تحديث المناهج وعصريتها وإعادة تأهيل المدرسين، وتوفير الأجهزة والأدوية للمستشفيات والوحدات الصحية العامة وهكذا، وينطبق الأمر ذاته على المرافق والبنية الأساسية. وإذا كنا نتكلم عن الموارد الحالية فإن مستقبل التنمية فى مصر يستوجب على المدى الطويل بناء استراتيجية راسخة حول قضية الطاقة وتوسعها (البترول، الغاز الطبيعى، المتجددة... إلخ) وتحضير خطة لأولويات استخدامها، سواء فى الإنتاج والاستهلاك المحلى أم التصدير، وكذلك المياه فى ضوء بدائل السياسات المشتركة مع دول حوض النيل.