قولوا للأم الثكلى التى زفت ابنها إلى مثواه الأخير، وعزاؤها الشهادة، ومواساتها الجنة، وصبرها لقاء يجمعهما، وسلواها شفاعته لها يوم القيامة.. إن المصالحة قرار. أخبروا الأب المكلوم أن حبيبه وسنده وظهره فى الكبر والعجز والهرم، كانت شهادته وجهة نظر، ومات خلافاً فى الرأى، وكل شىء محل اعتبار ومراجعة. أبلغوا الزوجة الشابة أرملة المقاتل الشهيد أن الشهادة درجات، ربما ينزل شهيدها درجة نرفع بها القاتل، بقرار المصالحة. هؤلاء القوم يقولون لكم إن أحلامكم فى الجنة التى يسكنها المفارقون وجهة نظر، ودرجة الشهادة قد غيرناها وبدلناها من مذاهب المتشددين، إلى مذاهب المتساهلين والوسطاء والسماسرة، والثمن حسب الوفرة والندرة، وأصبح الفارق بين الشهيد والقاتل درجة أو درجتين، أو من كان على الحق وأصاب فله أجران، ومن كان على الباطل واجتهد وأخطأ فله أجر واحد، وعلى الفقهاء والمشايخ أن يقرروا من على الحق ومن على الباطل، ومن العادل ومن الباغى، وأن الخروج على الحاكم الذى يجوز عند بعض الأئمة، قد أجزناه واعتمدناه وسمحنا وقبلنا العمل به، ولم يعد محل خلاف بيننا بعد، وستعلن الدرجات النهائية قريباً، ويوزع كل القتلى على مراتب ومنازل الجنات، منهم ما بين الفردوس الأعلى ومنازل الصالحين والأنبياء، ومنهم ما بين منازل الخوارج الخطائين منهم والتوابين، حتى لا يتقابلا على الأبواب، ويتزاحما على أولوية المرور، أو أسبقية الحجز، وعفا الله عما سلف «وتعالى على جنب خد أخوك جنبك» أو «الصلح خير قوم نتصالح الصلح خير» على رأى الداعية «نادية مصطفى». هؤلاء الذين ينادون بالمصالحة، وكان منهم يوماً من كتب دستور البلاد، ورسم خطوات العباد، قوم لا يخجلون ولا يستحون ولا يحسون ولا يفهمون ولا ينصفون. أترانا نبكى شهداءنا من جديد، كمن يبكى على قتيل حادث مرورى، أو ضحية صدام بين سيارتين، أو ضحية شاب أرعن وطائش ومتهور، أو صريع بيد سكير، أو قتل خطأ من عيار طائش فى زفة بالتكاتك، أو ضرب أفضى إلى الموت. مَن يستطِع منكم أن يعيد كتابة قرار الاتهام أو يصوغ نعى الشهداء من «استُشهد فى أرض البطولة والفداء يدافع عن الوطن»، إلى «رحل إثر حادث أليم»، أو يخرج هؤلاء من مقابرهم لتوديعهم وإعادة تشييع جثامينهم حسب القرار الجديد: «مظلوم بديلاً من شهيد»، «مصاب حادث جلل بدلاً من عريس السماء»، فليتقدم ويعلن عن نفسه صراحة.. اخرسوا جميعاً وأغلقوا أفواهكم، وإلا ستخرج عليكم أمهات الشهداء كالذئاب المفترسة تنهش لحومكم، وتسحلكم سحلاً، وتشفى غليلها منكم. اخرسوا وإلا خرج عليكم أبناء الشهداء يتسلقون ظهوركم كالدواب، الصلح أيها المأجورون اعتراف بالقتل الخطأ، ويجوز فيه الدية، وإنكار للقتل العمد الذى يجوز فيه القصاص، وشهيدنا اغتيل قصداً وعمداً وتربصاً، شهيدنا يا سادة لم يُقتَل على صراع الخلافة والإمامة فى معركة صفين، أو بين خلاف فى الرأى حول التحكيم فى معركة النهروان، شهيدنا قُتل غدراً، وقُتل دفاعاً عن دولة، ضد عصابة غزاة معتدين آثمين مغتصبة.
أيها الباعة الجائلون، وسماسرة الشهادة.. هذه الشهادة ليست للبيع أو الشراء أو الاستبدال أو المقايضة أو التغيير، ولا تقبل المنافسة أو التنازل أو الإنقاص، ولا ترضى بالمشاركة أو التقليل، الشهادة ليست بقرار جمهورى أو برلمانى، وليست وجهة نظر، أو فتوى مشايخ أو مذاهب تختلف باختلاف المكان والزمان، والضرورات والمحظورات. الشهادة ليست ديناً أو تنزيلاً، وليست للغزاة أو البغاة أو مغتصبى حقوق العباد، حتى لو كذبوا وقالوا عنها من عند الله، الشهادة صك وسند إلهى، لا يصرفه إلا الله، درجة من درجات التفوق يمنحها الله لمن يصد غازياً أو معتدياً أو سالباً للحق، وثيقة يمنحها الله لكل من يدافع عن الأرض والعرض والبيت والشرف، وليس للمشايخ والأئمة دخل فيها أو وساطة أو شفاعة، كل من قُتل دفاعاً عن الحق شهيد، كل من قتل دفاعاً عن المظلوم شهيد، كل من قُتل من البغاة شهيد، كل من دافع عن الأرض والعرض والولد والمرأة والدواب فهو شهيد، هى درجة من عند الله لكل من دافع وقاوم ومات، من كان دينه الإسلام أو أى دين آخر، فالحق والعدل ليس لغة دين واحد، يمنحها لأنسابه فقط، بل هو حق الله، يسمو ويرتفع عن كل الأديان، وهى لغة الله وميثاقه وعهده لكل المدافعين عن الحق والعدل، الله فوق الأديان وفوق الجميع، الشهادة لا يوثقها المشايخ أو الأئمة أو رجال الدين أو الأولياء أو الأنبياء أو الرسل، الشهادة علاقة أقوى تمر فوق رؤوس الجميع، تتخطى كل الطوابير والصفوف، تتجاوز كل الرسل والأنبياء والأديان، هى علاقة مباشرة بين الشهيد وربه، بين الحق وبين الله، بين المظلوم وبين الله، لا يفصل الشهيد حجاب أو حاجز أو حاجب أو نبى أو رسول أو وسيط عن صاحب الحق والدنيا والناس أجمعين، لا تصالح أيها السمسار بين الحق والضلال، بين الخوارج والإمام، بين الشهيد والمعتدى، بين الحامى والحرامى، بين شعب وقطاع طرق، بين ماء البحر وماء النهر، بين نبى وغبى. ليس قراركم ولا قرار أجدادكم، ولا قرار الشهداء أنفسهم..