تقوم الثورات الشعبية لسببين رئيسيين، التهميش السياسى والمعاناة الاقتصادية، وتحتهما قل ما شئت من أسباب فرعية، كالفساد وغياب المشاركة السياسية وضعف الكوادر السياسية، واستشراء الفقر والجهل وسطوة الأجهزة الأمنية وغياب الحريات، وحين تجتمع كل هذه الأسباب معا تصبح ثورة الشعب قادمة لا محالة.
والسودان فى ظل البشير، لا يختلف كثيرا عن دول الربيع العربى قبل ثلاثة أعوام مضت، بل ربما يزيد عليها شيئا مريرا، لم يحدث فى أهم خمس دول مرت بالربيع العربى، وهى مصر وليبيا واليمن وتونس وأخيراً سوريا، ونعنى به انقسام البلاد إلى بلدين، وما ترتب على ذلك من تشجيع فكرة أن من يحمل السلاح يمكنه أن يحصل على دولة، وهو ما نراه فى سلوكيات العديد من الجماعات السودانية المسلحة شرقا وغربا وجنوبا. وحين تجتمع كل هذه العناصر معا فنحن أمام توليفة للثورة تنتظر لحظة البدء، وها قد جاءت لحظة البداية، حين أعلنت حكومة البشير رفع الدعم عن المحروقات، ما جعل الفقراء أكثر فقرا وحاجة، وأدى بالطبقة الوسطى إلى أن تنزلق إلى مزالق الفقر والعوز، مما يخل بالتوازن المجتمعى، الذى يمثل فى حد ذاته التوازن المجتمعى العاصم من الفوضى والتوتر وانهيار النظام العام.
حكومة البشير لديها الأسباب القوية لرفع الدعم عن المحروقات، إذ يستهلك هذا الدعم 25 مليار جنيه سودانى سنويا، وهو ما يمثل أكثر من 80% من الموازنة العامة للدولة، لا سيما فى ضوء ندرة العملة الصعبة بعد انفصال الجنوب وانخفاض الموارد النفطية بنسبة 70%، وبالقطع لا يتبقى الشىء الكثير لاحتياجات الدولة الأخرى، خاصة فى ضوء المعارك العسكرية التى يتورط فيها الجيش السودانى فى أكثر من ولاية مع جماعات المعارضة المسلحة، والتى تستهلك بدورها نسبة معتبرة من الموازنة العامة للبلاد. ومن ثم فلا مفر من إلغاء الدعم وتوفير الطاقة والمحروقات بسعر التكلفة العالمى، والنظر إلى ذلك من باب الضرورات التى ستؤدى إلى تحسن الاقتصاد وتعافيه على المدى القصير، ومن ثم سيعود التحسن إلى حياة المواطنين، ولكن لاحقا. ناهيك عن أن الرئيس البشير لديه اقتناع جازم بأن حكمه على مدى ربع قرن قد طور بالفعل من حياة السودانيين الاقتصادية، فعلى الأقل، وحسب ما قال، باتوا يعرفون تلك الوجبة الأمريكية الشهيرة المسماة «الهوت دوغ». المواطن السودانى فى غالبيته، ولا أقول الأحزاب أو القوى السياسية، فكلاهما مهيض الجناح، له رؤية مختلفة من واقع حياته اليومية، فما يهمه هو القدرة على البقاء والحد الأدنى من أسباب العيش مع كرامة إنسانية، وتلك بدورها معرضة للزوال، فى ضوء الانسداد السياسى الشديد وفى ضوء القهر الأمنى، وفى ضوء التفاقم المستمر للوضع الاقتصادى السودانى، الذى وصل التضخم فيه إلى 44% وانخفضت قيمة العملة المحلية فى آخر عامين إلى النصف. ولذا ليس أمامه سوى مقاومة القرار حتى تتراجع الحكومة عنه، أو تتطور المطالب لتصب فى المطلب الشهير إسقاط النظام ورحيل الزعيم. وهو أمر مرجح، فالشعوب تتعلم من بعضها بعضا، ولسان حالها يقول لقد فعلها المصريون والتونسيون واليمنيون فلمَ لا نفعلها نحن؟ وقد نقل لى هذا التعبير حرفيا صديق سودانى تحدثت إليه هاتفيا عشية الأحداث الصاخبة فى الخرطوم، لغرض الاطمئنان، فكان جوابه: لسنا أقل منكم يا مصريين. عمليا فإن قدرة السودانيين على تغيير حكم البشير بعد دوام ربع قرن ليست يسيرة، وإن حدث الأمر فسيكون الثمن باهظا، وهو ما ظهرت مؤشراته بالفعل فى سقوط عدد كبير من الشهداء والمصابين فى أول يومين للاحتجاجات. فسقوط النظام يفتح بالفعل أبوابا للفوضى ومزيد من انقسام البلاد، وهناك قوى تستعد منذ فترة للانفصال عن الوطن الأم، فدارفور فى الغرب مؤهلة لأن تعلن استقلالها، والشرق على المنوال ذاته، وانتشار الجماعات المعارضة المسلحة معروف للكافة. وإن كان حكم البشير قد نجح فى شىء، فهو تقسيم السودان والقضاء على حيوية الأحزاب السياسية السودانية، سواء التقليدية مثل حزبى الأمة بزعامة الصادق المهدى والاتحادى بزعامة الميرغنى، وكذلك حوصرت الأحزاب الحديثة التى تشكلت فى ظل النظام أو كانت لها جذور تاريخية قبل 1989، حين استولى الثنائى البشير والترابى على السلطة، ثم استعادت دورها على استحياء بعد هذا التاريخ، خاصة الأحزاب اليسارية والشيوعية. وهو ما يجعل فكرة قيام هذه الأحزاب بقيادة الانتفاضة الشعبية الراهنة فكرة غير مكتملة وصعبة التنفيذ، خاصة أن الحكومة السودانية تشدد الحصار على هذه الأحزاب، ومنعت بالفعل لقاء لبعض قياداتها لتدارس ما يمكن فعله فى هذه الآونة، فضلا عن قطع الإنترنت أو إبطائه ووقف عمل موقعى «تويتر والفيس بوك»، ومحاصرة الصحافة المحلية، ومنعها من أن تصف ما يجرى أو تنقل الأخبار عنه، ولا يسمح بالنشر إلا بالرواية الرسمية، فكان أن توقف العديد من الصحف طواعية خشية الصدام مع الأمن، أو الوقوع فى خطيئة تضليل الرأى العام. يفهم المرء أن هدف إجراءات الحكومة السودانية هو السيطرة على حركة المحتجين، الذين تصفهم بالمنفلتين والمخربين، ومن ثم القضاء على حركة الاحتجاج من بدايتها. وذلك عبر قطع إمكانات التواصل فيما بينهم، ومنع ظهور قيادة سياسية يمكنها توظيف تلك الاحتجاجات الشعبية وتطوير أدائها، وصولا إلى ثورة جامعة تقهر النظام. وهنا يتجسد الخطأ الأكبر الذى تقع فيه الحكومة السودانية. فالشعوب فى لحظات الثورة، وما دامت أسبابها موجودة وقائمة، أصبحت تطور نفسها وتفرز قياداتها الذاتية التى تبدع أساليب التواصل والحشد واستمرار المواجهة مع الأمن، وليس بالضرورة هنا أن تقوم قيادات سياسية معروفة مسبقا بهذا الدور ما دامت لا شعبية لها أو أن حضورها لا يتعدى الفعل الرمزى. وبالتالى يصبح الحل الأمنى وحده وحصار الإعلام وإنكار الحقيقة بمثابة صب الزيت على النار.
لن ينفع النظام الحاكم المواجهة الأمنية وحدها، أو التهديد بإنزال ميليشيات حزب المؤتمر الوطنى الحاكم، كما قال بذلك نائب الرئيس على عثمان طه، لتأديب المنفلتين، أو استخدام القوة فى حدها الأقصى ضد المواطنين، فتلك توليفة تزيد الغضب وتشعل نار الثورة. ما ينفع السودان وحكومته الراهنة هو فتح الأفق أمام حل سياسى بالأساس، يسمح بمشاركة أكبر للقوى والأحزاب السياسية والمجتمع المدنى فى بناء نظام جديد وحكومة انتقالية جديدة ودستور جديد يرتضيه غالبية السودانيين، ومن ثم تنزوى احتمالات الوقوع فى فوضى لا تبقى ولا تذر. دعوا السودان لا يفقد أرضا جديدة أو يتورط فى معارك عسكرية واسعة المدى بلا معنى أو هدف. وكل الزعماء العرب الذى تصوروا أنهم فوق الشعوب والمؤسسات، وأصروا على حلول أمنية انتهى بهم المطاف إلى السجن أو القتل أو الخروج من الوطن أو الاحتماء باتفاقات إقليمية ودولية لعدم الملاحقة القانونية مع الخروج من المشهد السياسى تماما. أما البديل لكل هذه النماذج السيئة فهو الإقبال على الشعب وطلب الغفران منه. فهل يفعل البشير؟ نأمل ذلك وفورا.