«57357».. رحلة علاج يرعاها الأمل ودعاء الأمهات
مبنى المستشفى من الداخل
بجوار طفلتها على كرسى العلاج جلست تلاعبها، وفى عينيها نظرة حزن لم تفارقها، تارة تمسك يديها وتحركها لتُخرج منها ضحكة، وتارة أخرى تهيم بعينيها فى من حولها من أطفال مرضى جلسوا على كراسيهم فى هذه الصالة الواسعة، فى مشهد تعيش فيه الثلاثينية «نسمة أحمد» منذ شهر رمضان العام الماضى، عندما اكتشفت مرض طفلتها «أروى» التى لم تتخط عامها الخامس بعد، كانت البداية بآلام فى البطن وانتفاخات متكررة وبكاء لا ينقطع للطفلة، لم يطمئن قلب الأم حينها، وطافت بها على العديد من الأطباء فى المستشفيات والعيادات الخاصة، إلا أنها لم تأخذ منهم إجابات شافية لحالة طفلتها: «كل ما أروح لدكتور يقولى حاجة مختلفة، وفضلت على الحال ده سنة كاملة»، بعد عام كامل من التردد على الأطباء اكتشفت «نسمة» مرض «أروى»، عندما طلب منها طبيب عمل العديد من الأشعة التى أظهرت وجود ورم خبيث، لينصحها الطبيب بالتوجه على الفور إلى مستشفى سرطان الأطفال 57357، وهو ما استجابت إليه الأم دون تردد: «جبتها وجيت هنا فعلاً على طول، خدوا بياناتى أنا وبنتى وقالوا لى يومين وهنتصل بيكى، وتانى يوم على طول اتصلوا بى فعلاً ودخلت المستشفى من رمضان اللى فات».
«الوطن» زارت المرضى فى مستشفى سرطان الأطفال.. واستمعت إلى حكاياتهم
حالة من الصدمة تعيش فيها «نسمة» منذ أن علمت بمرض طفلتها، فهو مرض كان كل ما تعرفه عنه أن أشد الأمراض خطراً، ما جعل اليأس يتملكها، إلا أن الأمل بدأ يلوح لها فى الأفق مرة أخرى بعدما استجابت «أروى» للعلاج، وبدأت فى التعافى يوماً بعد آخر، فلم تعد فى حاجة إلى عملية جراحية لاستئصال الورم بعدما قل حجمه بدرجة كبيرة، ثم أخبروها: «هى بس دلوقتى محتاجة عملية زرع نخاع عشان الورم مايردش عليها تانى، وفعلاً عملوا لها عملية صغيرة أخدوا منها الخلايا ومستنيين دورنا فى زرع النخاع».
أسرة صغيرة تعيش فيها «نسمة» مع طفلتها «أروى» فى محافظة الإسماعيلية، تتكون من طفلين آخرين، وزوج يعمل فى أحد مصانع الطوب الأسمنتى، تقطع الأم هذه المسافة بين الإسماعيلية والقاهرة أسبوعياً، حيث تقضى بالمستشفى من 3 إلى 4 أيام، ترفض فيها «نسمة» الإقامة فى دار الضيافة التى يوفرها المستشفى، حسب قولها، وتصر على البيات على تلك الكراسى الكبيرة المجاورة لمكان علاج طفلتها، لتختم الأم حديثها قائلة: «أنا تعبت جداً ومبقتش قادرة أقف على رجلى، والله يكون فى عون أى حد مر بالظروف اللى إحنا مرينا بيها، وبدعى ربنا محدش يشوف اللى أنا شفته».
وفى صالة العلاج نفسها، كانت «هدير محمود»، 24 سنة، تجلس أمام طفلها «عمر» البالغ من العمر عامين فقط، تلتقط منه ألعابه الموضوعة أمامه وتردها إليه مرة أخرى لتعلو ضحكاته فى المكان، بينما هى تبتسم إليه فقط وعلى وجهها كانت علامات الحزن ظاهرة، فطفلها الجالس أمامها يعانى من مرضه منذ أن كان فى الشهر السادس من عمره، لم تكتشف المرض حينها، فقط أعراض غريبة لم يتمكن الأطباء من تشخيصها، تمثلت فى امتناعه عن التبول وبكاء مستمر، وظلت الأعراض تتردد عليه دون معرفة ما يعانى منه إلى أن بلغ عمره عاماً ونصف العام، وقتها توجهت «هدير» إلى أحد الأطباء اكتشف ما يعانى منه طفلها بعد إجراء العديد من الفحوصات، لتتوجه بعدها الأم إلى مستشفى 57357 فى أغسطس من العام الماضى: «الاستقبال لينا كان كويس جداً، وبدأنا نعمل الأشعة والتحاليل على طول، ومفيش شهر وبدأ ياخد جرعات الكيماوى والعلاج».
نحو عام قضاه الطفل «عمر» مع والدته داخل المستشفى، يتردد عليه ذهاباً وإياباً من محافظة بنى سويف التى يعيشون فيها، وفى هذه الفترة أجريت له عملية جراحية، إلا أن الاستجابة للعلاج كانت ضعيفة، حسب قول «هدير»، التى توجهت إلى طفلها تناوله بعض ألعابه ليكف عن الحركة، وعادت للحديث مرة أخرى وهى تقول بنبرة حزينة: «يوم ما اتعمل لعمر عملية ودخل فيها الرعاية كان أول مرة من ساعة ما اتولد يبعد عنى، وقتها قعد فى الرعاية 8 أيام متواصلة، ودى كانت حاجة صعبة قوى علىّ، بس الحمد لله عدت على خير».
يعول «هدير» وطفلها «عمر»، إلى جانب طفل آخر يبلغ من العمر 4 أعوام، أب «أرزقى» يعمل فى المعمار «نجار مسلح»، لا يأتى معها ويتركها هى مع «عمر» ترافقه بينما هو يعمل لجلب قوت يومه، فتأتى إلى المستشفى كل أسبوع نحو 4 أيام، تقيم خلالها فى دار الضيافة التى يوفرها لها المستشفى، بالإضافة إلى تذكرتى قطار ذهاباً وعودة أصبح يوفرهما لها المستشفى بعد أن كانت تأتى فى المواصلات العادية قبل ذلك، حسب قولها.
«نسمة»: «تعبت ومبقتش قادرة أقف على رجلى.. وربنا يكون فى عون أى حد مر بالظروف اللى إحنا مرينا بيها.. وبدعى ربنا محدش يشوف اللى أنا شفته»
وفى مشهد آخر، اختلف بعض الشىء، كانت الأربعينية «شيرين الجنيدى»، تجلس أمام طفلها «حسام» 14 سنة، وبجوارهما إحدى صديقاتها تمسك برواية لمذيع الراديو أحمد يونس، التى تحتوى على قصص مخيفة (رعب)، وتسأل «حسام» بنبرة ضاحكة عن سبب حبه له: «بيتابعه جداً، ولما عرفت فى الأول اعترضت وخُفت عليه فسألت أصحابه قالوا لى دى حاجة طبيعية، وقلت أهى حاجة تشغل وقته لأنه قبل ما يتعب كان بيحب الحركة جداً وكان بيلعب سباحة، لكن دلوقتى قاعد على طول»، تقولها «شيرين» قبل أن يقاطعها طفلها قائلاً: «أنا بحب أى حاجة ليها علاقة بالرعب وبحب الحاجات اللى بتضحك، وبقرأ لأحمد يونس رواياته وبسمع البرنامج بتاعه، ونفسى أقابل تامر حسنى واتصور معاه لأنى بحبه جداً».
استمعت «شيرين» لكلمات طفلها وهى باسمة قبل أن تخوض فى الحديث عن رحلة علاج «حسام» التى بدأت داخل أروقة مستشفى 57357 منذ نحو 15 شهراً، قبلها كان حسام يشتكى من نزلة برد لا تختلف كثيراً عن غيرها من نزلات البرد، ترددوا وقتها على أطباء وصفوا لهم بعض أدوية لعلاج البرد، إلا أن الأمر مع مرور الوقت أصبح يزداد سوءاً، وبعد بعض الفحوصات اتضح وجود مياه حول القلب تحجب الرؤية حول تحديد ما يعانى منه الطفل تحديداً، ليستمرا فى العلاج شهراً كاملا حتى تم شفاؤه من تجمعات المياه حول قلبه، لتظهر الأشعة بعد ذلك إصابته بورم فى الغدد منتشر بصورة كبيرة فى صدره وحول رقبته: «جيت المستشفى هنا وكنت عاملة فى حسابى إنهم مش هيقبلونى بس قلت أعمل محاولة، والحمد لله من أول مرة جيت فيها اتقبلنا على طول لأن حالة حسام كانت تستدعى ده عشان كان وصل لمرحلة إنه مبيعرفش يتنفس»، بدأت جلسات الكيماوى لـ«حسام» التى كان لها تأثير إيجابى فى بداية رحلة العلاج، إلا أن الاستجابة لم تكن موجودة بعد ذلك وعاد الورم مرة أخرى: «ده خلاهم هنا يغيروا أكتر من بروتوكول علاج وإحنا دلوقتى فى البروتوكول التالت والمفروض دى آخر جلسات فيه، وهنرجع نعمل أشعة مسح ذرى تانى نشوف وصلنا لفين».
«حسام» هو الأصغر بين إخوته، حيث يكبره شقيقان آخران يدرس كل منهما فى كلية الهندسة، ولد فى المملكة العربية السعودية، حيث كان يعمل والده مديراً لواحدة من المدارس هناك، وقبل عامين عادت الأسرة إلى مصر، لتستقر فى محافظة الإسكندرية، وما هى إلا عامين حتى اكتشفوا مرض الابن الأصغر: «اللحظة اللى سمعت فيها إن حسام عنده المرض كانت أصعب لحظة عليّا فى حياتى، لأنى ماكنتش أتوقع اللى هو فيه، وحتى إعلانات مستشفى 57357 لما كنت أشوفها فى التليفزيون كنت بحول عنها عشان مبقدرش أستحمل أشوف الأطفال وهم بالشكل ده، ومتوقعتش إنى فى يوم من الأيام هبقى واحدة من النزلاء فيها مع ابنى»، تقولها «شيرين» وهى تحاول أن تمسك دموعها التى ملأت عينيها.
«شيرين»: ماكنتش باستحمل إعلانات المستشفى والأطفال بالشكل ده ومتوقعتش إنى هبقى واحدة من النزلاء مع ابنى»
ومن جانبه قال الدكتور محمد عجاج، نائب مدير عام مستشفى 57357 للشئون الطبية، والمدير الطبى للمستشفى: «المستشفى كان بدايته من أجل علاج سرطان الأطفال، ونحن الآن بدأنا فى تطبيق شعارنا الحالى وهو (رحلة علم هدفها الحياة)، ولم يعد مجرد مستشفى وإنما أضيف إلى ذلك أن أصبح مركزاً بحثياً وعلمياً، ولدينا شهادات مع جامعة «هارفارد» فى أورام الأطفال وتم تخريج أول دفعة منه، بالإضافة إلى الدفعة الثانية التى ستتخرج خلال 3 أشهر، إلى جانب 6 شهادات أخرى مع الجامعة نفسها، وأول شهادة موازية للدكتوراه فى الصيدلة الإكلينيكية مع جامعة «كولورادو»، إلى جانب الشهادات الأخرى، وهذا يوضح أن هدف المستشفى الأساسى طفولة بلا سرطان، وهذا الهدف لن يتحقق بأن يكون لديك مجرد مستشفى للعلاج، وإنما أيضاً تعليم وبحث علمى، وهذا سيكون المستقبل فى الأعوام المقبلة».
وأضاف «عجاج»: «الدولة لا تقدم للمستشفى دعماً مادياً ولكنها تقدم لنا الدعم المعنوى، ولكن فى النهاية مستشفى 57357 هو ملك للشعب المصرى كله، ولا يوجد مصرى، طفلاً كان أو شاباً أو رجلاً كبيراً تبرع إلا وأصبح جزءاً من هذا الكيان، ولكننا ما زلنا غير قادرين على استيعاب كل الأطفال بسبب ضيق المساحة، وهو ما دفعنا إلى العمل على التوسعات الجارى تنفيذها الآن، والتى ستضيف الكثير للسعة الاستيعابية للمستشفى، فنحن الآن لدينا قدرة استيعابية بطاقة 320 سريراً، وهذا يعتبر أكبر حجم لمستشفى سرطان أطفال على مستوى العالم، ورغم ذلك غير قادرين على استقبال كل الأطفال المرضى، وأملنا مع نهاية بناء التوسعات إننا نقدر نستقبل كل الأطفال المصابين بمرض السرطان، حيث يفترض أن تكون سعة المستشفى بعد التوسعات فى حدود 620 سريراً»، متابعاً: «النظم المعمول بيها لدخول المستشفى واضحة ومعلقة بالمستشفى، أولاً نحن نعد مستشفى من الدرجة الثالثة، بمعنى أننا كمستشفى لا نستقبل الطفل المصاب بسخونة أو ما شابه ذلك، ولا بد أن يكون معه ما يدل على أنه مصاب بالسرطان، ويكون سنه من يوم إلى 18 سنة، ولم يتم علاجه خارج المستشفى فى مكان آخر من قبل، وهذه هى القواعد الأساسية التى نستقبل بها أى طفل، وبعد ذلك يتم تقسيمهم إلى مجموعات فى العيادات ويكون لهم قوائم يدخلون المستشفى من خلالها حسب دورهم، والانتظار يكون فى حدود أسبوع أو أسبوعين».
أحد الأطفال بالمستشفى
طفل مريض بصحبة والدته