هناك عقدة أزلية لازمتني منذ الصغر، بل ربما لازمت جيل بأكمله بدرجات متفاوته هي عقدة "رواية داخل كتاب" في محاولات مستميتة للقراءة سرًا.
تذكرت هذه العقدة أثناء محاولاتي الدؤوبة لجعل ابني يُقبل على القراءة ولم تثمر هذه المحاولات حتى الآن ولكني لم أيأس رغم كل المعوقات التي تقف في طريقي؛ قنوات تبث مختلف مسلسلات الكارتون على مدار أربعٍ وعشرين ساعة، كما أنه يستطيع متابعة مافاته من حلقات عن طريق اليوتيوب (في أحيانٍ كثيرة أستسلم وأجلس أنا معه لأتابع الكارتون ) ألعاب فيديو لا حصر لها بالإضافة إلى البي بلايد والتوب بليد واليويو وباقي هذه البدع الشيطانية.
في وسط محاولاتي تلك تذكرت يوم أن أحضر لي أبي - رحمه الله- مجموعة من القصص المصورة. لا زلت أذكر فرحتي الشديدة بها. ثم فرحة كل العائلة بي بعد أن قرأتها كلها في نفس اليوم (كنت في الصف الأول الإبتدائي وقتها). المفاجأة الأكبر عندما أعطيته بعدها قصة طفولية من تأليفي. طبعًا لم يكن لديّ ما لدى ابني من وسائل ترفيه أخرى. راقتني الفكرة بشدة. وجدت قصة لأجاثا كريستي (جريمة في قطار الشرق السريع- لم أنس اسمها قط) وبدأت أقرأها سائلًا أبي بين الحين والآخر عن معاني الكلمات الصعبة ( ما معنى: تردد هنيهة ثم دلف إلى الردهة). ثم وجدت ضالتي؛ الشياطين الـ١٣، المغامرون الخمسة،المغامرون الثلاثة. أرسين لوبين وتحولت إلى جرادة تأكل الأخضر واليابس من الكتب.
كان ذلك حتى ظهر رجل المستحيل وملف المستقبل بعدها كان ظهور ماوراء الطبيعة وتغيرت حياتي كما تغيرت حياة جيل بأكمله. هنا بدأت تتغير نظرة الأسرة للأمر ( أنت تقرأ كثيرًا على حساب وقت الاستذكار).أي استذكار يتحدثون عنه؟! الأمر لا يتطلب إلا الانتباه في الحصة ثم حل الواحبات المنزلية وقراءة كتاب الوزارة قبل الاختبارات ثم الإجابة على بعض الأسئلة الساذجة المكررة فالحصول على الدرجات النهائية. ولكني شعرت أن الأمر موجه ضد القراءة فقط فعندما أجلس لمشاهدة التلفاز لا يطلب مني أحد أن أنتبه لمذاكرتي هذا يحدث حين أقرأ فقط.
ويبدو أن ذلك لأني كنت أفرط في القراءة فعلًا فصرت قليل الكلام ولا أخرج من المنزل إلا قليلًا. ولكن لم يكن هناك مجال للاستسلام فترسخت لدي العقدة التي لازمتني سنوات طويلة (كتاب داخل كتاب). صرت خبيرًا في الأمر فاختبأ رجل المستحيل و ملف المستقبل داخل كتاب الدراسات الاجتماعية وعندما يدخل عليّ أحدهم أقلب صفحة الكتاب وأرفع وجهي في براءة. الكل يعرف أني أقرأ ولكن ضبطي بالجرم المشهود كان عسيرًا. القصص في جيب سري في حقيبة المدرسة بغرض التبادل مع الزملاء. ظهر رفعت اسماعيل في كتاب الفيزياء وفاروق جويدة في كتاب حساب المثلثات. حتى بعد أن صرت بلا رقابة لازمتني هذه العادة "الحرافيش"داخل كتاب التشريح، "نحن لانزرع الشوك" في كتاب علم الأنسجة، "أنّا كارنينا" في كتاب علم الأدوية، نزار قباني في كتاب الطب الشرعي ."مرتفعات ويذرنج" في كتاب طب العيون، "دكتور جيفاجو" في كتاب النسا والتوليد، "الأرض" في كتاب الجراحة.
لا شيء يوقفني عن القراءة. تم تهريب "ماجدولين" داخل كتب طبية لوحدة الجيش ( للأسف تم ضبط "ناموس الخلود" وصادرها أمن الوحدة). "قنديل أم هاشم"في درج المكتب في الوحدة الصحية، "هاري بوتر" في سكن الأطباء في المستشفى، أعد رسالة الماجستير على الكمبيوتر وخلفها في نافذة أخرى تقبع "مئة عام من العزلة"......... النتيجة أنني لم أتوقف قط عن القراءة تحت أي ظروف أو أي ضغوط، فقط اعتدتُ على القراءة سرًّا، ولم أستطع أن أغيّر هذه العادة حتى الآن.
القراءة لم تعطلني يومًا عن المذاكرة أو العمل.
القراءة تجعل الإنسان يستفيد من خبرات الآخرين، وتوسع مداركه، وتمنحه الخلفية الثقافية اللازمة لخوض الحياة أو للنقاش مع الآخرين.
أيها السادة رجاءًا دعوا أبناءكم يقرأون.