إسرائيل لم تتقبل الاتفاق النووى الشامل عام 2015.. الاتفاق حدد كل الترتيبات الكفيلة بمنع تراكم كميات من اليورانيوم المخصب تسمح بالاستخدام العسكرى.. لكن إيران رفضت أى قيود على إنتاج الصواريخ الباليستية. الاتفاق السرى الذى توصلت إليه واشنطن مع طهران نتيجة لقاءاتهما بسلطنة عمان، أطلق يدها بالمنطقة، فحشدت ميليشياتها وصواريخها فى سوريا ولبنان لتهدد إسرائيل. أمريكا استهدفت استعادة الدور التقليدى لإيران كحليف رئيسى بالمنطقة، لكنها فوجئت بتجاوزها للخطوط الحمراء المتعلقة بأمن إسرائيل.
إسرائيل كلفت الموساد برصد أى تجاوزات قد تساعد على إسقاط الاتفاق النووى، اعتمد على قرابة 100 عميل وعنصر متعاون، رصدوا تجميع كل ما يتعلق بـ«برنامج عماد» الذى كان يستهدف إنتاج خمسة رؤوس نووية، قوة كل منها 10 كيلو طن تى إن تى شديدة الانفجار، وتخزينها فى مستودع قديم بمنطقة شوراباد جنوب طهران، عمليات الرصد والتخطيط بدأت فبراير 2016، وتم اقتحام المبنى يناير 2018، والاستيلاء على نصف طن من الوثائق والأسطوانات تحتوى على 55000 ملف، حملتها شاحنتان، نقلتهما إلى أذربيجان على بعد 800 كم، حيث كانت تنتظر طائرة خاصة نقلتها إلى تل أبيب، يوسى كوهين، رئيس الموساد زار واشنطن فور نجاح العملية لإحاطة ترامب، وتقديم نسخة من الوثائق. الموساد يمتلك شبكات عمليات جيدة فى إيران، نجحت فى تصفية خمسة علماء ذرة 2007، تلتها عدة تفجيرات استهدفت آخرين، موقع «واللا» الإسرائيلى اعترف بأن تل أبيب حاولت اغتيال البروفيسور فخر زاده، رئيس «برنامج عماد»، العقل المدبر للبرنامج النووى الإيرانى، لكنها فشلت.
عقب زيارتى ماكرون وميركل للبيت الأبيض، كشف نتنياهو عن محتويات الوثائق «نهاية أبريل 2018»، مستهدفاً إفساد محاولات إقناع ترامب بالتراجع عن الانسحاب، لكنه عجز عن تقديم أى دليل على انتهاك طهران للاتفاق، الوكالة الدولية للطاقة النووية ردت بإعادة التذكير بتقريرها الصادر 2015، الذى أكد أنه «لم تعد هناك أى مؤشرات موثوقة تتعلق بتطوير إيران لأداة نووية متفجرة بعد 2009»، الوثائق لا قيمة فنية لها، فكل محتوياتها لدى الوكالة، لكنها تؤكد أن ذراع إسرائيل طويلة، وأن على إيران قبول تعديل الاتفاق، وإلا ستتعرض لصدام عسكرى، قد ينتهى بتدمير قدراتها النووية.
روسيا والصين تمسكتا بالاتفاق، فرنسا رفضت تعديله، مؤكدة: «كل ما قدمه نتنياهو من مبررات يعزز أهمية التمسك به»، ألمانيا التزمت بالموقف نفسه، والنائب توم بريك من «الديمقراطيين الأحرار» البريطانى، كشف «الانسحاب من الاتفاق يضر بتعاقدات الشركات البريطانية مع إيران»، فبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فازت بنصيب الأسد من التعاقدات، موجيرينى مفوضة الاتحاد الأوروبى للخارجية أشارت «تقارير الوكالة تؤكد احترام إيران لالتزاماتها بموجب الاتفاق»، وسداً للذرائع الأمريكية تبحث فرنسا وألمانيا وبريطانيا، فرض عقوبات دولية على برنامج طهران للصواريخ الباليستية.. والمثير أن هناك اتجاهاً قوياً بالولايات المتحدة يعرض الخروج من الاتفاق، مجموعة ديبلوماسيى ووركس برئاسة «كيرى»، وزير الخارجية الأسبق، أكدت «التهديدات التى عرضها نتنياهو هى التى فرضت نظاماً متطوراً للتفتيش عبر الاتفاق، وهو يسير جيداً»، وجون هيوز، نائب مدير العقوبات السابق بالخارجية وصف الوثائق بـ«سيناريو سياسى» استهدف التأثير على قرار «ترامب» بالانسحاب. والحقيقة أن الانسحاب الأمريكى لن يسقط الاتفاق، لأنه يمكن أن يظل سارياً بباقى أطرافه، وتلك إهانة لدور وهيبة أمريكا، وتفكيك للتضامن الغربى، أما إسقاطه فيحرر إيران من القيود على برنامجها النووى، والبديلان هما الأسوأ، ويوجهان رسالة سلبية لكوريا الشمالية تشكك فى التزام واشنطن بالاتفاقات الدولية، عندما تتغيّر الإدارات.
غادى إیزنكوت، رئیس الأركان الإسرائيلى، دعا للتعايش مع البرنامج النووى الإيرانى، لاستحالة إحباطه بشكل كامل. عوزى آراد، رئيس مجلس الأمن القومى السابق، أكد أن الوثائق لم تحمل أى جديد، ولم تقدم أى دليل على مخالفة إيران للاتفاق. رؤساء أركان إسرائيل السابقون «موشيه يعالون، بنى غانتس، دان حالوتس، وشاؤول موفاز» عارضوا إلغاء الاتفاق، «موفاز» وصف اقتراح بولتون، مستشار ترامب الجديد للأمن القومى بمهاجمة إسرائيل للمنشآت النووية الإيرانية بأنه «لا يتصف بالحصافة». «إيهود باراك» لفت الانتباه إلى أن كل خطط إسرائيل لمهاجمة تلك المنشآت تم فى النهاية التراجع عنها، لعدة أسباب الأول لرفض «غابى أشكنازى»، رئيس الأركان للخطة 2010، والثانى لمعارضة «موشيه يعلون»، و«يوفال شتاينتس» وزيرى الدفاع والمالية، والثالث خشية رد الفعل الأمريكى 2012.
لا توجد نية إذن لضرب إيران، فلماذا التصعيد الراهن؟!.. أمريكا انسحبت من الاتفاق، وتصعّد كوسيلة ضغط، لإضافة ملحق للاتفاق يتعلق بالصواريخ الباليستية، وتعديل نظام التفتيش لضم بعض الخبراء الأمريكيين، إضافة لفتح الحد الزمنى ليكون اتفاقاً دائماً بدلاً من انتهائه 2025. إسرائيل مُلتزمة بـ«عقيدة بيجن»، ولن تسمح لأية دولة معادية بالحصول على أسلحة نووية، دمرت المفاعل العراقى 1981، والسورى 2007، ولكنها لن تقوم بقصف إيران إلا إذا شكلت تهديداً نووياً، أما فى سوريا فالأمر مختلف، وسيستمر التصعيد للقضاء على الوجود الإيرانى، قبل استكمال شبكة الدفاع الجوى، أو التوصل لاتفاق دولى يمنع اختراق الأجواء السورية. «معاريف» حذرت: الحكومة تذهب للحرب لتعوض فشل سياستها بسوريا، التى استهدفت إسقاط الأسد، والإمساك بمدخل القنيطرة، للاحتفاظ بالسيطرة على الجولان. إسرائيل تراهن على أن الضغط سيؤتى ثماره نتيجة لصعوبة الموقف الإيرانى: الرأى العام ساخط بسبب تدهور الخدمات وتدنى مستويات المعيشة نتيجة للتمدد الخارجى، وسيتفاقم باستئناف العقوبات. روسيا تتحفظ على تحول إيران إلى دولة نووية، وستتحمس لخروجها من سوريا إذا سبّب وجودها أزمة تمس مصالحها. «حزب الله» مشغول بترتيب أوضاعه السياسية، ويحرص على تجنب الصدام حتى لا يجهض ما حققه من مكاسب، رغم أنه فى كل الأحوال هدف رئيسى.
الموقف بالمنطقة مرشح لتصاعد سريع يبلغ حد الحرب، ردود الفعل الإيرانية تتسم عادة بالعنف والرعونة، وما لم تتحسب لطبيعة توازنات القوى العسكرية والسياسية بالمنطقة والعالم، فقد تهاجم إسرائيل، لتختلط الأوراق، بصورة يستحيل معها التنبؤ بحجم التداعيات، أو بنتائجها.. موقف مصر لا تحسد عليه، لأنها لا يمكن أن تدعم إسرائيل لطرد إيران من سوريا، رغم أنه هدف مطلوب، ولا تستطيع أن تساند إيران، لتحول دون هيمنة القوة الإسرائيلية بالمنطقة، وهى ضرورة للتوازن.. سامح الله أشقاءنا بالخليج، فهم من سددوا فاتورة هذا العبث.