المساجيرى.. أقدم مبانى المدينة الصامدة «ترانزيت» بريد أوروبا إلى مستعمراتها
المساجيرى
فى شارع النبى موسى أمام «خور» بحر السويس، وقف المبنى شاهداً على تاريخ المدينة الباسلة، فهو الأقدم فوق أرض السويس أسسته الشركة الفرنسية «النقل عبر المحيطات»، ليكون مقراً لنقل الرسائل والأفراد والبضائع من الشرق الأقصى لأوروبا قبل التفكير فى حفر قناة السويس، فكان برجه العالى الخشبى، الذى لم يبق منه سوى أطلال، مرشداً للسفن المقبلة من الشرق الأقصى محملة بالتوابل والبضائع فى طريقها إلى أوروبا، وعمدانه الحجرية حامية لأهالى السويس ضد غارات المحتل الإسرائيلى، واتسعت غرفه لتكون شاهدة على خفة ظل «الباز أفندى» فى تحديه لـ«ابن حميدو»، واتجهت الأنظار إلى ساحته لتصوير مشهد غناء «غنى يا سمسمية» فى فيلم «حكايات الغريب»، إنه بيت «المساجيرى» أقدم مبنى فرنسى موجود فى محافظة السويس.
بوابة خشبية عملاقة تؤدى إلى ساحة مربعة الشكل، مزينة بمجموعة من الأشجار النادرة، الواقف فى وسطها سيرى النوافذ الخشبية الطويلة التى تزين بعضها بعلم مصر، تنادى على «أهل البيت» فيرد الحاج «عامر»، الرجل النوبى الأصل، سويسى المولد، لتأخذ واجبك، فأنت فى «بيت المساجيرى». يشير الرجل النوبى إليك لتدفع الباب المعدنى، القابع خلفه سلم خشبى يقودك إلى الطابق الثانى، يرحب بالضيوف، الذين اعتاد توافدهم، لالتقاط الصور الفوتوغرافية داخل المنزل ومعرفة تاريخه، فهو من مواليد المنزل وجده السابع سكنه، إذ توافد جده الكبير للعمل فى البيت مع الشركة الفرنسية قبل حفر قناة السويس، يقول عامر عبدالله: «عمرى 64 سنة وأخويا الكبير 70 سنة، اتولدنا لقينا نفسنا فى البيت، تقدرى تعتبرينى الجيل السابع لعيلتى، جدى عبدالقادر على قاسم كان شغال مع الشركة الفرنسية قبل حفر القنال وأبويا دخل البيت عام 1906 خلفاً لجدى».
15 «بمبوطى» يستأجرون غرفاً بالمنزل.. أسسته شركة فرنسية لنقل تجارة الشرق الأقصى إلى القارة العجوز قبل حفر القناة.. وخلده سينمائياً «ابن حميدو» و«حكايات الغريب»
يعود عم عامر بذاكرته بعدما عرف نفسه بأنه وكيل مفوض لشركة النقل عبر المحيطات «دلماس»، التى فوضته فى جمع الإيجار من الأسر الساكنة للمنزل: «البيت ساكن فيه 8 عائلات فى الدور الثانى أما الدور الأرضى فهو عبارة عن مخازن لمخلفات السفن يستفيد منها 15 بمبوطياً مقابل أجر شهرى، أقوم بجمع الإيجار من المستأجرين وأضعه فى حساب جارٍ لصالح الشركة الفرنسية».
يتذكر «عامر» حكايات الأجداد التى ورَّثوها للأبناء عن البيت: «البيت كان مبنى قبل حفر القنال، أقدم مبنى فى السويس وبعده اتبنى قصر نابليون ووراه قصر محمد على، بنوه عشان الملك ييجى يحضر حفل افتتاح القناة».
يشرح الرجل الهدف من إنشاء البيت وكيف كان يدار العمل به: «الفرنسيون بنوا البيت عشان يكون مركز لنقل الرسائل والأفراد والبضائع من أوروبا لمستعمراتهم فى الشرق الأقصى والعكس، فاختاروا المكان دا، وكان البيت فيه برج خشب عالى قاعد فيه واحد على كرسى وفى إيده نظارة معظمة يراقب البحر، وأول ما يشوف سفينة داخلة على الغاطس جاية من منطقة الشرق الأقصى، الهند أو الصين أو باكستان، يروح ضارب الجرس ويرفع العلم فى البندورة دى، فكان القباطين والموظفين فى البيت يعرفوا ويبدأوا يتحركوا بالصنادل الكبيرة للمراكب يجيبوا بضائع وأفراد، فيها اللى بيدخل السويس واللى بيروح القاهرة، وبيتم نقله عن طريق خط السكك الحديد اللى كان مكانه موجود فى طريق الكورنيش أمام بحر الخور».
يتابع «عامر»: «الشركة الفرنسية صاحبة البيت تعتبر هى اللى دخلت نظام التوكيلات الملاحية فى الشرق الأوسط، وطلعت من وراها شركات قطاع عام زى دمنهور والمنيا القبارى»، لافتاً إلى أنه بعد حفر قناة السويس وتدشين بورتوفيق انتهى عمل البيت وتحول مع الوقت إلى مكان يسكن فيه حالياً ثمانى عائلات ومخازن للبمبوطية».
تغييرات كثيرة شهدها «عامر»، ليس فقط فى الهدف من البيت وإنما فى الإطار المحيط به، فخط السكك الحديدية الذى يعد ثانى خط سكك حديدية فى مصر وربما ثالث أقدم سكك حديدية فى العالم، والذى كان يستخدم لنقل البضائع من بيت المساجيرى إلى القاهرة، تلاشى مع الوقت، وكذلك تم ردم البحر المواجه للمنزل عندما كان اليابانيون يقومون بتوسيع مجرى قناة السويس، فقاموا بردم التراب فى البحر بدلاً من أن يقوموا بوضعه على الجانب الآخر للقناة.
«عامر» سكن المنزل وورثه عن جدِّه السابع.. والشركة الفرنسية وكّلته لجمع الإيجار من 8 عائلات
توارث «عامر» الإقامة فى المنزل عن أجداده، وتوارث معهم الحكايات المرتبطة به، يتذكر عندما كان الأهالى يختبئون فى خندق أسفل المنزل من غارات العدوان الثلاثى قبل أن يتم حفر خنادق لحماية الأهالى من قبل الدولة، وكذلك يتذكر حكايات جده عن الرئيس عبدالناصر، الذى قام بتأميم المنزل، وكلف جده بأن يكون حارساً قضائياً يقوم بجمع إيجارات المنزل وتحصيلها للمدعى العام الاشتراكى، وبعد خروج المنزل من التأميم قامت الدولة باستئجار 3 غرف لتكون مقراً لمحكمة السويس الكلية لحين بناء مقر للمحكمة.
لم يشهد «المساجيرى» أحداثاً سياسية وتاريخية فقط، وإنما كان شاهداً على فيلمين مهمين فى تاريخ السينما المصرية كان أقدمهما فيلم «ابن حميدو» للفنان إسماعيل يس، حيث تم تصوير مشاهد من الفيلم داخل البيت، وكذلك فيلم «حكايات الغريب» للمخرجة إنعام محمد على، ما زال «عامر» يتذكر تفاصيل تصوير فيلم «حكايات الغريب»: «قعدوا معانا فى البيت لمدة شهر يصوروا، الدنيا كانت مقلوبة، التصوير كان فى الساحة، اللى تم تصوير أغنية غنى يا سمسمية لفرقة ولاد الأرض فيها والكابتن غزالى كان موجود معاهم»، مازحاً: «الست إنعام خدت مننا معالق الرز عشان يعزفوا بيها مع السمسمية وماخدناش المعالق لحد دلوقتى».
محاولات عدة يحاول بها «عامر» الحفاظ على المنزل حتى لا يصبح مهملاً، كان من بينها ترميم وطلاء الجدران الداخلية له المطلة على الساحة المكشوفة: «إن شاء الله بعد ما أرجع من الحج هرمم الواجهة الأمامية للمنزل».
تواريخ متباينة لعمر المبنى لا يعرف أحد الحقيقى له، بعضهم يرجع تاريخه إلى 300 عام والبعض الآخر 150 عاماً، لكن «عامر» يرى أن البيت تم بناؤه قبل وجود قناة السويس ويقدره بمائتى عام: «للأسف لا يوجد تاريخ محدد للمبنى حتى إن تاريخه لم يدون عليه لكن الفرنسيين قاموا ببنائه قبل حفر قناة السويس أى منذ قرابة 200 سنة».
أنور فتح الباب، من أبناء محافظة السويس، كان مرافقنا خلال مرورنا بأهم المعالم التاريخية فى المدينة، ويرى أن بيت المساجيرى من البيوت القليلة التى نالت حظاً من البقاء على عكس المنازل القديمة التى دمرتها الحرب: «الحروب المتوالية التى شهدتها مدن القناة، خاصة السويس، دمرت ذاكرة السويس المعمارية، التى كانت تتميز بالتراث البغدادلى، الذى يعتمد على العوارض الخشبية كأساس البناء مدعمة بالدبش الحجرى حتى تتماشى مع بيئة السويس البحرية». وعن القيمة التاريخية وسبب قيام الفرنسيين باختيار هذا المكان لبناء «المساجيرى»، أوضح «فتح الباب» أنه لا يمكن فصل بيت المساجيرى عن الصراع الاستعمارى الفرنسى الإنجليزى للسيطرة على طرق التجارة، وبما أن السويس تعد الطريق الرئيسى للتجارة، سبق أن استخدمه الفراعنة أيام الأسرة الخامسة، جاء التفكير فى هذا المكان، واعتبره الفرنسيون حلقة الوصل بين فرنسا وإنجلترا ومستعمراتهما فى الشرق الأقصى، خاصة الهند، وتحول المساجيرى إلى وسيلة لنقل البريد والتجارة والأفراد.
ولفت «فتح الباب» إلى أن هذا البيت فتح الطريق أمام الشركات الوسيطة لنقل التجارة والبريد، موضحاً أنه قبل إنشاء «المساجيرى» وفى عهد محمد على باشا عندما رفض إنشاء خطوط السكك الحديدية، قام الكولونيل البريطانى توماس واجهورن، مؤسس شركة بريد الهند الشرقية، باستخدام أول طريق ملاحى مختصر بين الشرق والغرب، حيث كان ينقل البضائع والأفراد والرسائل المقبلة من بومباى عبر السفن من ميناء السويس وينقلها إلى القاهرة ومنها إلى الإسكندرية وعبر البحر إلى مارسيليا وروما والعكس، مقابل 10 جنيهات إسترلينى، إلى أن ظهر بيت المساجيرى فتم إنشاء خط سكك حديدية من السويس إلى القاهرة، والذى يعد ثانى خط سكك حديدية بعد خط القاهرة - الإسكندرية، وثالث أقدم خط حديدى على مستوى العالم.
«المساجيرى» من الخارج
عامر عبدالله وكيل الشركة الفرنسية