يقولون إن البدايات المتشابهة تؤدى إلى نفس النهايات تقريباً.. لكن يبدو أن الأمر ليس قاعدة يُستند إليها فى كل الأحوال.. ولأننا نعانى للمرة الرابعة فى عامين فحسب من نقص حاد فى بعض الأدوية الحيوية -تمهيداً لرفع سعرها فى الأغلب- فأعتقد أن الوقت قد حان للمقارنة بين التجربتين المصرية والهندية فى صناعة الدواء.. فربما وجدنا الحل فيها.القصة بدأت فى منتصف القرن الماضى.. وبعد تأميم جمال عبدالناصر لقناة السويس، استخدمت الحكومات الغربية شركات الدواء العالمية، وضغطت بملف الدواء -ضمن عدة ضغوط سياسية واقتصادية- على مصر، لعدولها عن قرار التأميم.. فكانت أول أزمة للدواء فى هذا الوطن.فى ذلك الوقت، انتبه «عبدالناصر» إلى أهمية صناعة المادة الخام الدوائية داخل مصر، للتخلص من الضغوط السياسية عليه، وتأمين الاحتياجات المحلية؛ فأنشأ بمساعدة الاتحاد السوفيتى شركة النصر للكيماويات الدوائية سنة 1960 فى أبوزعبل بمحافظة القليوبية، لتصبح أول مصنع فى أفريقيا والشرق الأوسط لإنتاج المادة الخام الدوائية للمضادات الحيوية، مثل الإمبيسيلين والتتراسيكلين، والريفامبسين، والكلورامفنيكول.لقد كانت البداية مبشرة حقاً.. لكن أحداً لم يتحرك فى هذا المجال إلى ما هو أبعد من ذلك.فى التوقيت نفسه تقريباً كانت الضغوط السياسية على الهند باستخدام الدواء أيضاً فى ذروتها، فقامت الهند بإنشاء معهد «هندوستان للمضادات الحيوية» سنة 1958، وأقامت الهند، بمساعدة الاتحاد السوفيتى أيضاً، شركة الهند المحدودة للأدوية والعقاقير، وأعلنت الحكومة الهندية هدفاً استراتيجياً صريحاً، هو «تحقيق الاكتفاء الذاتى من الدواء».الفارق أن الهند لم تتوقف عند هذه الخطوة، فقد أدركت أن الأمن القومى لها يتطلب توفير الدواء محلياً بشكل كامل، وأدركت أيضاً أنه لا تطوير فى هذه الصناعة إلا بالبحث العلمى، فأنشأت الكثير من مراكز الأبحاث الدوائية، بل قامت بتحديد الأدوية الأكثر استعمالاً فى البلاد، وقررت أن يكون إنتاجها مؤمَّناً بشكل كامل!!لقد كانت السياسات الهندية فى صناعة الدواء سبباً لتتحول الهند بعدها إلى مركز عالمى لصناعة الدواء، وبأسعار تقل كثيراً عن السعر الأصلى للدواء -ودون دعم حكومى- فانطلق الدواء الهندى ليغزو العالم كله وينافس الدواء العالمى فى كل مكان، وأصبحت صناعة الدواء مصدراً للدخل القومى فى الهند بشكل كبير، حتى أطلق البعض على الهند «صيدلية فقراء العالم»!!أما فى مصر، فمشت سفينة الدواء على عكس ما يشتهى أحد.. فتمّت إزاحة شركات الدواء العامة وعددها ثمانى شركات مملوكة للدولة من الصورة بشكل شبه كامل، وتعطلت خطوط إنتاجها، أو توقفت تماماً، وباتت تحتل أقل من 4% من حجم سوق الدواء المصرى. واستحوذت الشركات الأجنبية على 60% من حجم السوق. أما النسبة المتبقية فالتهمتها شركات القطاع الخاص، التى بدأت فى التمدّد والتوسّع، بداية من عصر الانفتاح وحتى هذه الأيام التى نعانى فيها من الكثير من أزمات الدواء المتعاقبة!!لقد رفضت مصر، رغم كل المكاسب التى يمكن أن تحقّقها، إنشاء أى مصنع للمادة الخام الدوائية فى مصر. واكتفت شركات الدواء العاملة فى مصر، سواء المملوكة للدولة أو الأجنبية أو الخاصة، بتعبئة المادة الخام والتجارة فى الدواء. فلا تملك كل هذه الشركات مجتمعة عالِماً واحداً، ويخلو ملفها من اكتشاف أى دواء.. بل لا يوجد فى ميزانيتها أى إشارة من قريب أو بعيد إلى البحث العلمى.لقد تعددت مشاكل الرعاية الصحية فى هذا الوطن على مر العصور، وتراكمت مضاعفاتها لتصبح أزمة حقيقية يحتار الجميع فى العثور على حل لها.. ولكن يظل ملف الدواء العنصر الأكثر خطورة وتأثيراً فى المشكلة كلها، مهما حاولنا تفكيكها أو التعمّق فى جذورها.ربما آن الأوان أن ننظر جيداً إلى التجربة الهندية الناجحة فى هذا الملف الشائك.. ربما أصبح لزاماً أن نهتم بصناعة المادة الخام الدوائية وتفعيل مصانع القطاع العام المصرية، ولو بالشراكة مع القطاع الخاص.وربما على وزارة الصحة أن تدرك أن الدواء أمن قومى.. ربما أهم كثيراً من صراعها فى قانون التجارب السريرية والتدريب الإلزامى للأطباء... وغيرها من المعارك الجانبية التى تصنعها لنفسها!!علينا أن ننظر إلى التجربة الهندية المدهشة.. فبها الحل الحقيقى لتلك الأزمة التى تفاقمت.أفيقوا يرحمكم الله..