قبل يوم واحد من بيان وزير الخارجية الأمريكية بومبيو عن استراتيجية بلاده بشأن التعامل مع إيران والمطلوب من الدول الأوروبية، وصولاً إلى اتفاق أكثر شمولاً وإذعاناً لإيران، أبلغ وزير الخارجية الإيرانى، محمد جواد ظريف، إحدى لجان البرلمان بأن «الاتفاق النووى مع الغرب يمر بمرحلة حرجة جداً وأصبح كمريض يحتضر»، العبارة تعد بمثابة تحضير الرأى العام الإيرانى بأن هناك أياماً صعبة وضغوطاً ومفاجآت يجب التحسب لها، كما أنها تلخص ما صرح به علناً بأن المواقف الأوروبية أضعف كثيراً مما انتظرته طهران، فالأوروبيون حسب ظريف ليسوا بقادرين على تعويض إيران وحماية مصالحها المتفق عليها فى الاتفاق النووى الذى انسحبت منه الولايات المتحدة، وتركت فرصة فى حدود ستة أشهر لحلفائها إما بالانضمام معها فى العقوبات المشددة على إيران، أو إقناعها بالتفاوض من أجل اتفاق جديد يعالج ما يعتبره ترامب ثغرات كبرى فى الاتفاق الحالى يجب إغلاقها تماماً.قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووى الإيرانى وضع الجميع أمام اختبار صعب، بومبيو وزير الخارجية الأمريكى صرح قبل يوم واحد من إعلان قرار الانسحاب بأن سياسة بلاده ستعمل على ضمان مصالحها العليا بدون أن تُطلق طلقة واحدة، أى لا قرار بالحرب ضد إيران، وإنما عقوبات شاملة وضغوط وحصار وتضييق على أعلى المستويات، وترك النتائج تتفاعل فى الداخل الإيرانى دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة، وقبلها صرح جون بولتون، مستشار ترامب للأمن القومى، بأن بلاده لا تريد الإطاحة بالنظام الإيرانى، لكنه أشار أيضاً إلى أن العقوبات الأمريكية سوف تمتد إلى الشركات الأوروبية التى تقبل العمل معها، إضعاف إيران اقتصادياً إلى أقصى درجة هو الخيار الذى اختاره ترامب على أن تُعطى مهلة بحد أقصى ستة أشهر للحلفاء الأوروبيين أن يقنعوا إيران بالتفاوض من أجل اتفاق جديد يشمل البرنامج النووى وصناعة الصواريخ الباليستية والحد من أنشطة الحرس الثورى الإيرانى.المشاورات الجارية بين العواصم الأوروبية وكل من موسكو وبكين تبدو متعثرة، ظاهرها شىء وباطنها شىء آخر، الجميع يبحث عن مصالحه، الجميع أصر بداية على الالتزام بالاتفاق النووى ثم رويداً رويداً يقتربون من الموقف الأمريكى بزعم الحفاظ على الاستقرار وضرورة تقديم إيران التنازلات، المؤشرات تؤكد أن إمكانية الحفاظ على الاتفاق النووى بين إيران ودول أوروبا وباقى العالم وعدم الاكتراث بالانسحاب الأمريكى والعقوبات المشددة لم تعد خياراً عملياً، ففكرة المقارنة بين مصالح أوروبا مع إيران مقابل مصالح أوروبا مع الولايات المتحدة تبدو محسومة تماماً لصالح العلاقة مع الولايات المتحدة، أوروبا ممثلة فى بعض رموزها كفرنسا وألمانيا والمفوضية الأوروبية سعوا إلى إقناع أنفسهم بالقدرة على استمرار التعامل مع إيران دون التأثر بالعقوبات الأمريكية المحتملة على الشركات الأوروبية بعد مرور الأشهر الستة المقبلة، لكن الواقع العملى يقول إن تلك مهمة مستحيلة.وزير خارجية فرنسا رفض أن تكون واشنطن شرطى العالم الاقتصادى، باريس حاولت قيادة موقف أوروبى جماعى للرد على الموقف الأمريكى ولحماية مصالح الشركات الأوروبية العاملة فى إيران وما أبرمته من عقود تتجاوز 120 مليار دولار فى صناعات النفط والسيارات والطاقة الكهربائية والطائرات المدنية، ألمانيا تبدو غير متحمسة للمسعى الفرنسى ووزير خارجيتها أعلن صراحة عدم القدرة على حماية الشركات الألمانية، باقى الأطراف الأوروبية فى حالة صمت تام، لا أحد منهم يجرؤ على معاداة أمريكا، المهم هنا هو موقف الشركات الأوروبية الكبرى كسيمنس وإير باص وإينى وميرسك وأليانز وتوتال وآخرون، وهم جميعاً لديهم تعاقدات بمبالغ كبيرة مع إيران، غالبية هذه الشركات أعلنت صراحة أنها ستخرج من السوق الإيرانية ولن تنتظر نهاية المهلة التى حددها الرئيس ترامب، بعض تلك الشركات طالب بحماية أوروبية رسمية من العقوبات الأمريكية وتعويضات واستثناءات، وهى مطالب لم تقدر عليها الحكومات رغم المسعى الحالى فى المفوضية الأوروبية بالسماح لبنك الاستثمار الأوروبى بتمويل الأنشطة المالية فى إيران باليورو وليس بالدولار، وكذلك تفعيل ما يعرف بقواعد الاتحاد الأوروبى للعام 1996 المعروفة بقواعد التعطيل، التى تسمح للاتحاد بالتدخل لحماية الشركات الأوروبية من أى عقوبات أمريكية تم فرضها على كوبا، والمشكلة أن هذه القواعد لم تُطبق فى حينه، وبالتالى فهى تحتاج دراسات معمقة يبدو أن لا حماس أوروبى جماعى لها، لا سيما أن أى شركة أوروبية لا تقدر على التضحية بعلاقاتها الاقتصادية بالسوق الأمريكى لصالح صفقة مع إيران يمكن تعوضها فى بلد آخر.الصورة على الجانب الآخر مليئة أيضاً بالتحديات، فإيران تواجه ورطة كبرى، فمصالحها الاقتصادية التى راهنت عليها من خلال الانفتاح على الغرب إجمالاً بما فى ذلك الولايات المتحدة، باتت فى مهب الريح، والسؤال كيف ستتصرف طهران، هناك مساران؛ إما الدخول فى مفاوضات وفق المعايير الأمريكية المعلنة وتلك بدورها تعنى الخضوع للمطالب الأمريكية وهو أمر غير متصور إيرانياً، أما المسار الثانى فهو التحدى وعدم الاكتراث والعودة مرة أخرى إلى الحالة التى كانت عليها قبل توقيع الاتفاق، وأن تتجه مرة أخرى إلى رفع درجة تخصيب اليورانيوم إلى 20%، وتشغيل كافة المرافق ذات الصلة، وربما منع مراقبى الوكالة الذرية من ممارسة عملهم حسب الاتفاق الملغى، وهو ما يعنى نوعاً من التصعيد الذى من شأنه أن تستخدمه الولايات المتحدة فى ممارسة المزيد من الضغوط بزعم أن إيران باتت دولة مارقة لا تكترث بالمعاهدات الدولية الخاصة بمنع الانتشار النووى، وبالتالى وضع معايير أكثر تشدداً فى أى مباحثات محتملة مع إيران لاحقاً.المساران اللذان يواجهان إيران يتعلقان بشكل غير مباشر بالطريقة التى تُدار بها السياسة الإيرانية، وبتعدد الرؤى ما بين إصلاحيين يرمز إليهم الرئيس الحالى حسن روحانى، وهم الذين ضُربوا فى الصميم بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق وعدم قدرة أوروبا على حماية الاتفاق كما كان يأمل روحانى ومسئولو الخارجية الإيرانية، وبين المتشددين الذين يرمز إليهم المرشد الأعلى على خامنئى، وهم المتشككون أصلاً من التعامل مع الولايات المتحدة ولا يثقون فى أن أوروبا يمكنها أن تلعب دوراً مستقلاً، وتأتى التطورات لتصب فى تأكيد مقولاتهم وقناعاتهم، ولكنهم مثل الإصلاحيين يواجهون المأزق ذاته، ويظل السؤال الكبير ما هو الرد الممكن الذى من شأنه أن يحافظ على المصالح الإيرانية بمعناها العام، وفى الآن نفسه لا ينصاعون للمطالب الأمريكية؟