عن «مصر بلد الأغنياء» أتحدث، تلك التى نراها تلح علينا فى إعلانات التليفزيون كل عام لنشترى فيلا أو شاليه فى «كمبوند» (على مرمى حجر) بمقدم يتجاوز المائة ألف وأقساط تتحدى كلمة «الفقر» فى قاموس الشعب الذى استسلم لشراء «لحم الحمير»، والبحث عن بدائل «نباتية» للبروتين، ورضخ لفرق أسعار المدارس الخاصة «بعد تحرير سعر الصرف»، أو سلم راتبه الشهرى لمدرس خاص انتزع من «التعليم» مضمون «التربية» وتنازل عن أخلاقه ليلتهم «لحم البشر» بالدروس الخصوصية!عن «بلد الأغنياء» تلك التى تناضل للحج والعمرة كل عام، وتصيّف فى «باريس»، وتقضى «الويك إند» فى «الساحل أو السخنة أو الجونة... إلخ».. مصر التى قال عنها النجم «عادل إمام» جملته الشهيرة: «من يرى مصر من فوق غير الذى يراها من تحت»!.مصر التى أصبحت «ذات الوجهين»، وجه يمتلك المليارات بعمله وجهده ويدفع ضرائبه بل ويتبرع للأعمال الخيرية، ووجه آخر فقَد «الستر» بمعناه المادى والأدبى، بعد موجات الغلاء المتعاقبة (الطبقة المتوسطة)، حتى أصبح البلد فى حالة «سيولة طبقية»: (رجال «الاقتصاد السرى» الذين أخرجوا المليارات «من بيوتهم» للتمتع بسعر الفائدة 20% على الودائع فى البنوك، لا أحد يعلم شيئاً عن نشاطهم وهل هو نشاط مجرّم أم لا، لكنهم ارتقوا اجتماعياً).. هؤلاء تسلقوا السلم الاجتماعى من الباب الخلفى بالتزامن مع سقوط «الطبقة الوسطى» إلى «خط الفقر» أو ما دونه!وهكذا انقسمت مصر إلى طبقتين: طبقة ثرية (بطرق مشروعة أو غير مشروعة)، وطبقة فقيرة كانت تسمى «الطبقة المتوسطة» وهى الكتلة الصلبة حاملة القيم، والطبقة الحرجة فى المجتمع، والتى تسدد فاتورة «الإصلاح الاقتصادى» بقناعة كاملة بحتمية خطوات الإصلاح، وبينهما هوامش تصعد وتهبط حسب نوع «البيزنس» وحمى الجشع وطبيعة المضاربة فى «السوق السوداء»!.لقد راهنت الدولة على مشروع «تكافل وكرامة» للمهمشين، ونقل العشوائيات لمناطق حضارية، ولم يتحسّب أحد للخطر المترتب على سقوط الطبقة الوسطى التى تتسلح بـ«الوعى» وتتابع رفع رواتب الوزراء، وترى بوضوح فشل الحكومة فى «محاربة الفساد»، وعجزها عن إدارة الأزمات مثل «أزمة الدواء» أو «الغلاء»!الصدمة التى أصابت «فقراء مصر» كانت تصريحات اللواء «ممدوح شعبان»، المدير العام لجمعية الأورمان بمصر، خلال جلسة «اسأل الرئيس» التى عُقدت بحضور الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، ضمن جلسات المؤتمر الوطنى الخامس للشباب، حين قال إن مصر «ليس بها فقراء»!ورغم أن الحديث تم اجتزاؤه من السياق فقد كان «شعبان» يقصد فى تصريحاته أن هناك زيادة ملحوظة فى التبرعات، وقال «شعبان»: «طُفت من أسوان لمرسى مطروح، التبرعات من المصريين زادت بنسبة 300%، كنا نتلقّى 300 مليون جنيه منذ 3 سنوات، واليوم نقترب من مليار جنيه تبرعات، كنا نقيم مشروعات لـما يقرب من 12 ألف أسرة، أصبحنا نقيم مشروعات لـ83 ألف أسرة».. ثم تابع قائلاً: «أنا هقول وعلى مسئوليتى: مفيش حد فى مصر فقير»، ولذلك أثارت تصريحاته استياء شعبياً واسعاً.فبحسب التقرير الإحصائى الوطنى لمتابعة أهداف التنمية المستدامة «2030» المنشور فى موقع «فيتو» فى 15 مايو الحالى، والذى أعده الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بالتعاون مع الوزرات والهيئات، فإن نسبة الفقر وصلت إلى 27.8% خلال عام 2015، أما نسبة السكان الذين يعيشون دون خط الفقر الوطنى فى الفئة العمرية 25 سنة فأكثر فبلغت 24.3%، وفى الفئة العمرية من 15 إلى 24 سنة نحو 35.4%، و15 سنة فأكثر نحو 27.7%(!!).نفس التقرير أشار إلى أن نسبة الموارد التى تخصصها الحكومة مباشرة لبرنامج الحد من الفقر 30% وفقاً للموازنة العامة للدولة عام 2016 - 2017.. ولفت التقرير إلى أن عدد المستفيدين من برنامج تكافل وكرامة فى الفترة من مارس 2015 إلى مايو 2017 نحو 1.7 مليون أسرة، بما يعادل 8 ملايين فرد بإجمالى مبالغ تصل إلى 7.5 مليار جنيه، مشيراً إلى استحواذ الصعيد على 72%من هذه القيمة، إذاً ليس أمامك إلا أن تتابع إعلانات بالملايين لجمع تبرعات بالمليارات للجمعيات الخيرية، وأن تتبرع «ولو بجنيه».. وأن تنظر إلى «الناس اللى فوق»!مصر من فوق مزدحمة بالخيام الرمضانية الفاخرة، والسيارات الفارهة، وبنات قمرات «لابسين سينييه»، وأرخص فانوس بمائة جنيه، وساعتها سترى مصر «من فوق»، وقد تنسى أنك فى «قاع الفقر»، أو تخجل من الإفصاح عنه، لا أدرى لماذا تذكرت الآن شخصيات رسام الكاريكاتير العبقرى «مصطفى حسين»، رحمه الله، «الكحيت وعزيز بك الأليت»!!.