لا أحد يعرف على وجه الدقة، الأسباب التى دفعت شخصية قانونية قديرة كالدكتور أحمد كمال أبوالمجد لكى يطرح فكرة المصالحة بين جماعة الإخوان والقائمين على السلطة الثورية الحالية فى مصر، وفقا لتعبيراته، وهى التى أطاحت أصلا بسلطة الجماعة ورئيسها، ويسعى وفقا لتعبيراته أيضاً لبناء حالة من التهدئة تتلوها خطوات أخرى يتفق عليها الطرفان؛ الجماعة فى جانب وسلطات الدولة المصرية فى جانب آخر. مع تحفظنا بالطبع على مثل هذا التصور الذى يجعل جماعة معينة كطرف يماثل الدولة رأسا برأس.
والراجح أن هناك أسبابا شخصية وأخرى تخص الوطن ككل، وكلاهما لا غبار عليه أن يسعى أى مواطن لفعل ما يراه فى صالح بلده واستقراره. بيد أن الأمر أبعد من مجرد رغبة شخصية أو مسعى ذاتى، إنها الشروط والأسس التى تؤدى إلى مصالحة حقيقية وقابلة للاستمرار وذات جذور فى وجدان المجتمع ككل. وهنا يمكن للمرء القول بسهولة إن أوان المصالحة مع الإخوان لم يحن بعد. وباعترافهم المعلن أن لا قبول بإرادة المصريين فى 30 يونيو ولا تنازل عما يعتبرونه عودة الشرعية، رئيسا ودستورا ومجلسا نيابيا، ولا تراجع عن تجمعات عشوائية وتهديدات متتالية لمصالح المصريين وللمؤسسات المختلفة، ولا عودة عن أعمال عنف وتخريب كالتى تحدث فى سيناء، ولا عودة عن الانصياع لتعليمات التنظيم الدولى الهادفة إلى خراب مصر ودفعها إلى اقتتال أهلى بغيض لا يسعى إليه إلا الكارهون لمصر والمصريين.
وحين يُطرح موضوع المصالحة بالشكل المبتسر الذى يتحدث عنه البعض، فمن الطبيعى أن تطرح أسئلة كثيرة وضرورية، فمن هى الأطراف التى يمكن أن تتصالح وعلى أى شىء تتصالح؟ فهل يمكن مثلا المصالحة على الدم وبيع الوطن أو جزء منه؟ وهل يمكن المصالحة مع طرف يرفع السلاح فى وجه الشعب والشرطة والجيش ويسعى إلى تجزئة الجيش الوطنى وتشكيل جيش بديل تشارك فيه عناصر من جنسيات مختلفة؟ وهل يمكن المصالحة مع قوى سياسية تكفر المختلفين معها وتستعين بدعم خارجى لهدم الوطن ومؤسساته ومساجده وكنائسه؟ ويقينا أن كافة هذه الأمور محلها القضاء ولا علاقة لها بأى مصالحة مجتمعية.
إن خبرات وتقاليد المصالحات التاريخية فى عدد من البلدان التى شهدت مراحل تحول كبرى بين حروب أهلية إلى نظم مستقرة أو شبه مستقرة كسيراليون مثلا، أو من نظم ديكتاتورية تسلطية حدثت فيها انتهاكات رهيبة لحقوق الإنسان إلى نظم ديمقراطية تراعى حقوق المواطنة كتشيلى والأرجنتين وبلدان أوربا الشرقية سابقا، يمكنها أن تساعدنا فى فهم طبيعة الحالة التى تمر بها مصر وطبيعة المصالحة المجتمعية التى يفترض أن نبحث عنها من أجل الحاضر والمستقبل معا. ولعل الأهم فى هذا السياق هو أن مفهوم المصالحة يختلف بحسب الحالة وحجم ما فيها من انتهاكات ومظالم، ويختلف أيضاً حسب حجم التدخل أو الأدوار التى مارستها الأمم المتحدة أو المنظمات الإقليمية. ويظل القاسم المشترك، رغم اختلاف الحالات، هو أن المصالحة تعبر عن هدف سامٍ ولكنها تُمارس كعملية متدرجة، لا بد أن تحدد فيها أولا الأطراف المعنية تحديدا لا يقبل الشكوك أو المناورات، وتحدد فيها الخطوات والصلاحيات والهيئات التى سوف تقوم بالمصالحة، ومن هنا تعتبر المصالحة قرين العدالة الانتقالية، وتلك بدورها تقوم حسب الخبرات التاريخية المختلفة وما انتهت إليه الأمم المتحدة على عدة أسس وهى؛ كشف الحقيقة والمحاسبة القانونية والتعويضات للمتضررين ماديا ومعنويا، وإعادة هيكلة المؤسسات الأكثر ارتباطا بحقوق المواطن وحمايته، خاصة الشرطة وأجهزة الأمن عموما، وفى الأخير تحقيق المصالحة التاريخية بين فرقاء الوطن. وبعبارة أخرى إن المصالحة ليست جهد أشخاص بل نتيجة عمل مؤسسات يحكمها قانون واضح ومحدد ومدى زمنى. وللأسف ورغم أن لدينا وزارة للعدالة الانتقالية فإن حضورها فى المشهد العام يماثل الصفر الكبير. وكل ما فعلته هذه الوزارة أنها نظمت لقاء حضره ناشطون ورجال سياسة وقانون، انتهى إلى نوع من الدردشة التى لا تفيد أحدا. ولا يوجد ما يفيد أن هناك جهدا حقيقيا لبلورة قانون للعدالة الانتقالية يحقق المصالحة المجتمعية والتاريخية المطلوبة.
ويقينا أن المصالحة المطلوبة ليست معنية فقط بالإخوان، بل معنية بتجاوز كل المظالم التى حدثت قبل ثورة 25 يناير أو بعدها. وهناك ثلاث مراحل كبرى لا بد من التعامل معها، كل حسب طبيعة الانتهاكات التى جرت فيها؛ الأولى فترة حكم مبارك، والثانية المرحلة الانتقالية التى أدارها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والثالثة مرحلة حكم الإخوان. وإذ نحمد الله أن ليس لدينا انتهاكات جسيمة ومذابح عرقية كالتى شهدتها الحروب الأهلية فى بلدان أفريقية أو فى أمريكا اللاتينية، أو كالتى حدثت فى بلدان شهدت حكما عنصريا فاضحا لعقود طويلة كجنوب أفريقيا مثلا، أو انتهاكات الاختفاء القسرى لمجموعات كبيرة من المواطنين، لأسباب عرقية أو دينية أو سياسية، كالتى حدثت فى المغرب بعد 1974 وحتى 1990، فإن لدينا مظالم عامة تتعلق بانسداد الأفق السياسى وفساد نخبوى، وأخرى تتعلق بحقوق الشهداء الذين وقعوا فى المظاهرات والفعاليات الجماهيرية المختلفة، مع ضرورة ضبط مصطلح الشهيد منعا للخلط بين الحابل والنابل والمستحق والمدعى، وثالثة تتعلق بوقائع كبرى تمس الأمن القومى والتكامل الإقليمى للوطن، ورابعة بحقوق اقتصادية وتهميش لمناطق مختلفة نتيجة سوء الإدارة.
إن النظرة الشاملة لمفهوم المصالحة الوطنية وربطها بالعدالة الانتقالية، كعملية متعددة الأركان وذات مبادئ عليا وسامية، ترتبط بالحق والمواطنة والاستقرار والمساواة وإحياء الذاكرة الوطنية، لمنع العودة إلى الممارسات البالية، وإعادة بناء المؤسسات، استنادا إلى نظرة حقوقية وتنموية، ومساحة واسعة وفعالة للمجتمع المدنى، انطلاقا من اعتبارات وطنية بالدرجة الأولى، من شأنها أن تؤدى بالفعل إلى حلحلة الكثير من القضايا المعلقة ووضعها فى إطارها الموضوعى دون زيادة أو نقصان، وبما يفقد العديد من الأطراف المعادين للوطن قدراتهم على إثارة الانقسام والشكوك فى المجتمع. ودعونا نبدأ الخطوة الصحيحة وأن يكون لدينا قانون للعدالة الانتقالية وهيئات ذات صلاحيات وتعاون كامل من كل الجهات ذات الصلة. أما المتورطون فى قضايا عنف وإرهاب وفساد اقتصادى وسياسى وخيانة للوطن وللأمانة فهؤلاء لا علاقة لهم بأى مصالحة.