لدى كل منا حكايات وصور وأصوات وهمهمات ودندنات وأحلام وبقايا هدايا وروائح ومذاق يسكنونه ولا يغادرون أماكنهم مطلقاً مهما مرت السنوات وتغيرت الملامح أو نبرة الصوت أو الأحلام والأمنيات، فمن مقعد المدرسة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية ومن ضفيرة الشعر التى تهتز وتزدان بالشرائط البيضاء إلى مقعد تصفيف الشعر والصبغات والألوان المبهجة والشعر المستعار ومن الحذاء الرياضى إلى الكعب ذى الصوت الرنان والحقيبة النسائية الصغيرة وأحمر الشفاه وطلاء الأظافر ومن ملعب المدرسة الابتدائية إلى الملعب الأولمبى وحلم الاحتراف والمركز الأول فى السباحة والتدريب لعبور المانش ومن الثياب الرياضية ذات الماركة العالمية إلى بدلة الزفاف والمكتب فى برج شهير يعانق السحاب والرصيد فى بنك أجنبى واللعب فى البورصة، ومن القلب الصغير فى سلسلة حول عنق الشابة تمسك به أثناء الحديث مع الآخرين لتؤكد للجميع أن لديها حبيباً، وتلك هديته إلى الخاتم الماسى الذى تحرك أصابعها كثيراً ليراه الجميع. وحتى المشاعر من محطة لأخرى تتغير وتتبدل الاحتياجات من حضن الأم والتشبث به ومحاولة ارتداء حذائها واستخدام أشيائها الخاصة إلى التمرد على محاولاتها اقتحام الخصوصية وأسرار المراهقة والبحث عن فارس الأحلام ومن التشبه بالأب إلى الهروب من سطوته والخروج من بين أصابعه والبحث عن ثوب جديد تماماً ورفض العروس المختارة والتمسك بالحبيبة، ومن الدمية الصناعة المنزلية من بقايا ملابس العيد إلى العروسة كرنبة وكوكو واوا، ثم باربى بدولاب ملابس ملكات الموضة والأناقة ولا بأس من فلة بعباءة سوداء وغطاء رأس للتشبه بالإسلاميين، ثم دمية عيد الحب ومن الدراجة ذات العجلات الثلاث إلى دراجة السباق والخوذة لحماية الرأس والماكينة التى تسابق الريح إلى السيارة الشبابية بزجاج معتم ثم آخر ماركات العربات الألمانية والفرنسية والسائق الخاص واستئجار الرحلات الخاصة بالطائرات وحضور المؤتمرات الدولية للطيران وللسلاح بحثا عن طريقة للوصول للعالمية والشهرة ومن اتحاد طلاب المدرسة إلى مثيله فى الجامعة إلى أمانة شباب الحزب ثم رئاسته وإتقان لعبة السياسة وخوض الانتخابات ثم حلم الوصول إلى القمة. بين كل هذه المحطات تعيش وتنمو ذكرياتنا والتى كشف مجموعة من علماء الطب النفسى فى دراسة لهم أجريت بجامعة كاليفورنيا الأمريكية بمركز رونالد ريجان الطبى أن هناك خلية عصبية بالمخ منفردة وسط كم هائل من مليارات الخلايا العصبية مسئولة عن القدرات الإدراكية وهى المتعلقة بالذاكرة البشرية وعلى الأخص بلورة الارتباطات ببعض اللحظات فى حياتنا والتى نتعلق بها وتطول إقامتنا فيها ويسحرنا عبقها ويأخذنا الحنين إليها. وتحدثت الدراسة عن (علم النوستالجيا) كمفهوم للحنين للماضى، فأثبتوا أنها حالة عاطفية نصنعها نحن فى إطار معين وأوقات وأماكن معينة كما وصفوها بأنها عملية يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة وطرد جميع اللحظات السلبية وتضمنت الدراسات أن ٨٠٪ من الناس يشعرون بالنوستالجيا مرة واحدة أسبوعياً. ويقول عنها الخبراء النفسيون إنها آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية فهى مورد نفسى يهبط فيه الناس ليستعيدوا حياتهم ويشعروا بقيمتهم وهى من السبل الناجحة فى صد الاكتئاب ليشعر الإنسان بأن حياته كانت دافئة ذات يوم. والطريف أن تكون تلك الذكريات والأشياء المختفية بين طيات عقولنا هى زاد الشعراء والفنانين والحكماء حيث يقول أحدهم فى وصفها (أن للذكريات تجاعيد تماماً كالسنين، لكنها تسكن الأرواح لا الوجوه) و(الذكريات الجميلة تأتى على هيئة وجع)، وقد قال عنها جبران خليل جبران (الذكرى صورة من صور اللقاء) أما أحمد شوقى فقد خلّد الذكريات عندما قال (يا جارة الوادى طربت وعادنى ما يشبه الأحلام من ذكراك). أما أنا، وأصدقائى، فنحتفظ بكل صغيرة تحمل لنا ذكرى أو حنيناً حتى لو كانت وردة وفراشة.