الرسالة واصلة بكل شفافية ومصداقية ومحبة. الدولة ليس لديها من الجهد أو الرغبة أو الاهتمام لتركز مع صغائر أمور الشارع. وصغائر أمور الشارع هى تلك الأمور التى -تبعاً لثقافات غير الثقافات وملل غير الملة- تبنى أو تكسر الدول والأمم.
فصغائر الشارع تبدأ بتنظيم مرورى وتمر بتنظيف دورى وتنتهى بتركيبة العلاقات التى تجمع بين الناس الموجودين فيه. وقد تبنى الدول مشروعات عظمى، أو تشيد مؤسسات كبرى، أو تخطط خططاً مستقبلية تليق بالأمم الكبرى. لكنها إن تركت صغائر الشارع «تضرب تقلب»، فإنها تكون بذلك تكتب شهادة الوفاة فى الوقت نفسه الذى تصدر فيه شهادات ميلاد الإنجازات الكبرى.
وكان من أكبر ما هالنى فى الشهر الكريم، وتحديداً فى خضم إعلانات وحملات التبرع (وفى أقوال أخرى التسول والشحاذة باستخدام أساليب تدهس إنسانية المحتاج وتدوس على كرامة الإنسان) التى تداهمك حتى وأنت فى حمام بيتكم، هذا الإعلان الذى يجمع تبرعات المحسنين لشراء تروسيكل يبدأ به المحتاج مشروعه الصغير.
وبعيداً عن قيم التراحم والتكافل التى لا يعترض عليها إلا جاحد أو فاسق، فإن السؤال الذى يطرح نفسه هو: وهل مصر تتحمل المزيد من هذه المظاهر العشوائية الفوضوية؟ وهل هناك من يراقب ويحاسب جحافل التروسيكل؟ وهل مسموح لها الانطلاق على الطرق السريعة، وهى من الطبيعى أن تحمل أسراً بأكملها من نساء وأطفال وشباب.. إلخ؟
وضمن حملات التبرع والخير من يجمع أموالاً لشراء «تكاتك» للمحتاجين والباحثين عن فرصة عمل. ومبدئياً أنا من المؤمنين بضرورة محاسبة من كانوا أو ما زالوا فى موقع المسئولية حين هجمت علينا هذه التكاتك اللعينة من كل حدب وصوب. كما أن استمرار وجودها فى شوارعنا ومياديننا الرئيسية يستوجب مساءلة وعقوبة صارمة.
فمن قال إن هذه المركبات التى يقود أغلبها أطفال متسربون من المدارس أو لم تطأ أقدامهم مدارس من الأصل، يحق لها القضاء على بقايا من تحضر وتمدن فى شوارعنا؟!
وسواء اتفقنا أن ما يجرى فى شوارعنا من فوضى تامة هى من الصغائر أو من الكبائر، فإن المحصلة النهائية واحدة. شوارعنا لا تليق بالبشر، أى بشر. والسبب فى ذلك ليس فقرنا، أو ضيق ذات جيوبنا، أو اضمحلال شأننا، لكن السبب الأول والأخير هو غيبوبة القانون وعدم رغبة القائمين على أمر تطبيقه القيام بما ينبغى عليهم القيام به.
وحيث إننى فقدت الأمل فى معرفة أسباب انقشاع الرغبة التى سلمتنا إلى من لا يرحم بين بلطجية متنكرين فى صورة «سايس» أو متسول أو صاحب مقهى يحتل الرصيف، أو قائد سيارة دون لوحة أرقام أو سائر عكس الاتجاه أو غيرهم، فإن السؤال الآن هو: لماذا يصر البعض على الإمعان والإفراط فى نشر الفوضى نشراً تشعر أحياناً أنه متعمد؟!
وبالطبع فإن سهام الاتهامات وخناجر التبكيتات تكون دائماً جاهزة وقيد الانطلاق. «وماذا عن الغلابة؟»، «ومش قادرين غير على الفقراء؟»، «ده حتة توك توك يا كفرة» وغيرها من أساليب الترويع الطبقى والتهويش الازدرائى يصب جميعها فى منظومة صغائر الشارع المنتهكة.
وكان البعض من السذج وقليلى الخبرة الحياتية يعتقدون أن أولى الأمر سينظرون حتماً بعين الاعتبار بعد ما نظروا بعين ملؤها القلق لما آلت إليه أمور شوارعنا. فهم -أولو الأمر- ليسوا من بلاد بعيدة أو ينتمون لثقافات سحيقة. كما أنهم على الأغلب لا يتوجهون إلى أعمالهم بالطائرات النفاثة أو مرتدين طاقية الإخفاء. أغلب الظن أنهم ما زالوا يتذكرون شكل شوارعنا والصغائر التى تتحكم فيه وتظهره بهذا الشكل الغارق فى القبح. لكن أولى الأمر لم ينظروا أو يتطرقوا أو يتفاعلوا مع الشارع المصرى الذى بات حديث القاصى والدانى.
صغائر الشارع تضعنا فى ذيل الأمم. اسأل أى زائر زار القاهرة خلال الأشهر الماضية عن انطباعاته وستسمع ما لا أذن سمعت من البشائع والقبائح. تحرش، فوضى، قذارة، غياب تام لقواعد المرور والسير، عنف كامن، بلطجة، والقائمة طويلة جداً. وأقترح أن يتم وضع كل خطط التنشيط السياحى والترويج لمصر كوجهة سياحية إلى أن يلتفت أحدهم لهذه الغوغائية.
وأسلوب اتقاء غضب البعض من خلال فتح أبواب الفوضى على مصاريعها، من تهاون تام فى تطبيق قوانين المرور إلى غض الطرف عن انتهاك الأملاك العامة وضرب عرض الحائط بالقوانين، حتى إن كان تحت ستار التراحم والتكافل فى الشهر الكريم، إنما هو قبح مطلق.