زمن ترتفع فيه إمبراطوريات المهمشين والمستبعدين والمهملين، ويتمدد تأثيرها ودورها، وتنتشر ثقافتها، وتهيمن على المجتمع سلوكياتها ومفرداتها وكلماتها ولسانها، وتفرض عليه أداؤها وتصرفاتها، فهو إما زمن البطالة، أو زمن غياب وتغييب القانون وانحسار دور وتأثير الدولة، والأشد عجباً وغرابة أن هذه الفئات المهمشة، تجنى من وراء غياب القانون، وتفشى ظاهرة البطالة وانتشارها بين الفئات المتعلمة، الربح الوفير والمال الكثير، وتطول أياديها من مصادر الرزق ما هو مخالف وممنوع، وما تتنوع مصادره وتتشابك بين حرام صرف بلا مبالاة، وبين حلال وحرام دون تصنيف أو فرز أو تجنيب، ويكون لشئون البلطجة والفتونة والفوضى والتخريب النصيب الأكبر فى السيطرة على شكل الشارع والهيمنة عليه، حتى يظن الناس أنه لا منجاة من هؤلاء، وأن المجتمع لن يقدر عليهم يوماً، وأن ضبط الخطوط الرئيسية للدولة، التى تضمن ثبات شكلها واستقرارها وهيمنتها أمام أعين الناس أمر بات مستحيلاً. الأدهى أن هذه السوق من العمل على شكلها الحالى من عشوائية وفوضى، ومخالفتها للقانون ولقواعد الاستقرار، أصبحت جذابة لقطاع عريض من العمالة الفنية المتخصصة فى الانضمام إليه من مهن وحرف مختلفة مهمة ومؤثرة، فهذا الفارق الهائل بين ما يجنيه هؤلاء المهمشون من مغانم ومكاسب وأرباح وفيرة، بقليل من الإنفاق، عن الفئات الرئيسية والأساسية والفعالة وغيرها فى المجتمع، هو الإغراء الرئيسى، والدافع الأساسى، لجذب هذا القطاع العريض إليه، وهو قطاع للأسف يزيد عن أعداد الطرف الرئيسى والمتعلم أضعافاً مضاعفة، وذلك نتيجة هذا المشروع الفوضوى الخاص بتحديد النسل، الذى زادت فيه أعداد الطبقات المهمشة والضعيفة أضعافاً مضاعفة عن الفئات القادرة، وكان نتيجته المزرية هذا الهرم الاجتماعى المقلوب، قاعدته لأعلى ويتكون من الفقراء والبسطاء والضعفاء والمهمشين، ورأسه لأسفل وتتكون من الأغنياء والأساسيين والمتعلمين، فسيطرت وهيمنت القاعدة على الشارع، وفرضت عليه ثقافته وسلوكياته وأعماله وأفعاله، وما نحن فيه الآن أحد أهم تبعات هذا المخطط غير المدروس، فزاد الجهل والجهلاء، والفقر والفقراء، والضعف والضعفاء، وانتشرت هذه الجحافل فى الشارع تتحدى الدولة والقانون، باحثة عن لقمة عيش بلا عنوان، سواء حرام أو حلال، قانونى أو غير قانونى، كل هذا لا يهم، وكان هذا المسخ الذى نعيشه، وهذا الخطر الذى ينتشر دون ضابط أو رابط، ويهدد سلامة الجميع. هذه الظاهرة هى ردة سيئة على الأصول والقواعد العلمية الصحيحة، وعودة رديئة عن شكل الدولة الحديثة التى يجب أن تكون، ونهاية غير مأمونة العواقب على كيان المجتمع، وخطوطه التى تضمن أمنه واستقراره، وهو تخريب لخريطة العمل وتوازنه فى الحاضر وفى المستقبل، إذا ما رأت فيه أجيال مقبلة كثيرة أن هذا النوع من العمل المهمش وغير المنتج هو الأمل، وهو النجاة من الفقر، وهم للأسف الكثير من الشباب الذين يتحملون عبء البناء والتشييد والصنعة والأعمال الفنية المختلفة، وهم دينامو الحركة الفنية فى المجتمع، لأن الانضمام إلى هذا الطابور أكثر سهولة ويسراً ومالاً من العمل الجاد، فيعزفون عنه، وهذه هى المصيبة والكارثة، وهذا هو خراب خريطة العمل وتوازنه المطلوب، يتساوى فى مسيرته وحجمه ولا تقل عنه، هؤلاء الوسطاء والسماسرة والناقلون لمقدرات وأقوات الناس، فهؤلاء يربحون أكثر من ربح المنتج الرئيسى، ويجنون ثمار عرقه وكده، هذه كارثة المهمشين والمغيبين سواء غياب إجبارى أو غياب اختيارى، وأخص بالذكر فئات البوابين والسياس، الذين انتشروا وفرضوا سطوتهم ونفوذهم، على الشارع، وحولوه إلى ثكنة عسكرية، وفوضى وعشوائية، أو قل شارع فى البيت أو بيت فى الشارع، يمارس فيه وجوده ومعيشته وقضاء حوائجه، فى تحدّ سافر للقانون والنظام، فطغت سلوكياتهم على سلوكيات الخاصة، وتمددت لغتهم على لغة الناس، وهيمنت آداب التعامل على آداب وسلوكيات عامة المجتمع، فلا مانع من نقل احتياجاته وقضائها فى الشارع أو نقل الشارع إلى البيت. هؤلاء المهمشون بإرادتهم وباختياراتهم قد احتلوا شوارع الأحياء الراقية الزمالك والدقى ومصر الجديدة وأكتوبر والتجمع، بكتل الحجارة أو إطارات السيارات القديمة، أو السلاسل والجنازير، فى منظر وشكل بدائى وكأننا فى حارة أو زقاق، ويمنع أصحاب السيارات من استخدام حقهم الطبيعى فى الوقوف والانتظار حتى يرضى السايس أو البواب بعد المساومة على المبلغ وربما يحصله قبل الانتظار، تعالوا إلى كل الشوارع الرئيسية، مقسم بين سايس أو بواب وأكثر، كل له مساحته وحدوده، ويكفى أن يرتدى هذا الرداء المخطط، وصافرة الحكم فى فمه، ويعلق على وسطه شنطة صغيرة لتحصيل الإيرادات، وكأن الدولة وسلطانها قد أنشأت هذه الشوارع لصالح هؤلاء، يفرضون على الناس ما ليس لهم الحق فيه، وكأننا فى دولة البوابين والسياس.
هذه الظاهرة الرديئة والقاتلة والمدمرة أصبحت من أسوأ الظواهر التى تراها العين، وهى تهميش لدور الدولة وقدرتها وسطوتها وسيطرتها. من هنا من هذا المكان من الشارع يا سادة تبدأ هيبة الدولة، فإما دولة القانون أو دولة البوابين والسياس.وأتساءل: هل يتم هذا تحت جناح البعض؟
نعم، وبلا مجاملة.