فى مثل هذه الأيام من شهر يونيو ٦٧ كنت فى المرحلة الابتدائية، وقد أنهيت امتحاناتى وأمارس هوايتى فى اللعب، ولكن أذنى كانت مع الراديو الذى كان يقوم بإذاعة بيانات ليس عن المعركة التى أُعلن رسمياً أنها توقفت بعد هزيمتنا، ولكن نداءات لتجميع الشاردين وفاقدى الاتصال مع القيادة العامة للجيش، وأيضاً توجيه تنبيهات للشعب عن أحداث شتى.. أول التوجيهات كان لطلبة المرحلة الإعدادية يقول إنه سيتم إعادة امتحان مادة «الجبر» لأنه تم تسريبه بواسطة ضعاف النفوس مستغلين الظروف والأزمة التى تمر بها بلادنا وعليه يُعتبر امتحان «الجبر» الذى قام بأدائه تلاميذ تلك المرحلة «لاغياً»، وسيتم تحديد موعد آخر لأداء امتحان هذه المادة، وعلى الطلاب مراجعة مدارسهم لمعرفة ميعاد إعادة الامتحان وأيضاً سوف يتم التنويه عن يوم إعادة الامتحان عبر الإذاعة. ولقد حفظت هذا النبأ لتكراره على مدار الساعة، مما جعلنى أردده وكأنه إحدى الأغانى الوطنية التى كانت تذاع وقتذاك، وكانت شقيقتى الكبرى من طلاب المرحلة الإعدادية، فظلت تبكى بحرقة وتنعى الحظ الذى سيجعلها تقوم بمذاكرة هذه المادة مرة أخرى بعد أن أنهت الامتحانات واعتقدت أن همّ المذاكرة قد ولى وكلما كررت الإذاعة البيان تزيد فى البكاء. حاولت أمى تهدئتها دون جدوى، وكانت أمى وطنية للغاية وناصرية للنخاع، جلست بجانب شقيقتى واحتضنتها وقالت لها: «البلد فى محنة، يعنى ما حدث علينا أن نتحمله وإن شاء الله الامتحان ييجى سهل عن اللى اتلغى»، ولكن شقيقتى لم تقتنع، وظلت على حالتها، فوجدت أمى تبكى بجانبها وتقول: «هى مادة وخلاص، لكن مصر حتعيد الحرب كلها علشان سقطت فى الحرب وهى لازم تنجح، أكيد حتنجح بإذن الله». عند ذلك توقفت أختى عن البكاء، وقالت لها: «إمتى يا ماما حنعيد الحرب؟»، قالت أمى: «قريب، وحنسقّط إسرائيل، وعلشان كده مش لازم تزعلى علشان مادة وتعدى بالخير، ولما يحددوا يوم الامتحان حستناكى لما ترجعى وتقولى لى يا ماما أنا حليت الامتحان كويس وحشترى لك قماش تعملى فستان جديد للصيف». أنهت أمى مشكلة شقيقتى الكبرى وعيناها مليئتان بالدموع، وكان النداء ما زال يتكرر بالإذاعة. المهم أن بعد هذا التسريب للامتحان أنهت الدولة على مركزية الامتحان الذى أعطى الفرصة، من خلال نقله من القاهرة إلى باقى المحافظات، بأن يستغله بعض القائمين على النقل من باب أن الدولة أمامها ما هو أهم من الامتحان، حيث معركة محو الهزيمة.. ولكن حتى الآن لم أنسَ كلام أمى رحمة الله عليها.
نداءان آخران ظلت أذنى تحتفظ بهما رغم طفولتى وإن لم أعرف ماذا يعنيان إلا بعد أن أصبحت محررة عسكرية، وسألت. وبعد مجهود حصلت على الإجابة.. نداء يطلب من القادة العسكريين الذين يوجدون بسيناء وفقدوا الاتصال مع القيادة التوجه إلى الرصيف نمرة ٦ على القناة، حيث كان فى انتظارهم لجنة تقصى الحقائق لمعرفة ماذا حدث قبل أن يسلموا أنفسهم للقيادة بالقاهرة. النداء الآخر كان يقول بإلحاح شديد: «حلمى وجلال.. عودوا إلى قواعدكم»، وعرفت فيما بعد أن المقصودَين هما اللواءان أحمد حلمى وجلال هريدى، وحكايتهما أنه قبل الحرب بأيام جاء الملك حسين إلى مصر وقابل عبدالناصر ووقّع اتفاقية دفاع مشترك، وطلب أن يقود عبدالمنعم رياض الجيش على الجبهة الأردنية، وأخذ الملك عبدالمنعم معه، وطلب رياض من عبدالحكيم عامر أن يرسل له كتيبتَى صاعقة ليدمروا المطارات الإسرائيلية أثناء الحرب، فأرسل له حلمى وجلال، وعند وصولهما قامت الحرب، ولم يكن أحد منهما قد تأقلم أو استطلع، فقال لهما الأردنيون: خذا «أدلاء أثر» ليدلاكم على المطارات (تل نوف، هاتسوريم، هاتسور، اللد). وكانت المفاجأة أن الأدلاء لا يعرفون إلا إسرائيل ١٩٤٨، بينما هى قد تغيرت تماماً فى ٦٧، وحدثت الهزيمة، وفقدا الاتصال، وخشيت القيادة أن يتم أسرهما أو فقدهما، فوجهت لهما نداء متكرراً عبر الإذاعة، وكما ذكر لى القادة فإن حرب يونيو كانت تدار من الإذاعة.