هل اختلف المناخ التكفيرى، الذى اُغتيل فيه المفكر الكبير الدكتور «فرج فودة» عام 1992 عن المناخ الذى نحيا فيه الآن؟!.الحقيقة أن المناخ ازداد إرهاباً للمفكرين والمثقفين، وما كان يحذر منه «فودة» أصبح فى لحظة مخطوفة من تاريخ مصر واقعاً، فالمفكر الذى دفع حياته ثمناً لدعوته لفصل الدين عن الدولة لم يعش ليرى «مكتب الإرشاد» يحكم مصر من المقطم، ولم ير من يدعو من فوق المنبر إلى تسليم «القضاء» إلى المعزول «محمد مرسى» أسوة بالنبى (ص) كما ادعى.. ولم يسمع ما سمعناه من فتاوى مخجلة ومشينة استحلت لحم الأطفال النىء بـ«الوطء الحلال» أو الاغتصاب حتى الموت.. ولا رأى وجوهاً كالحة تُفتينا بمضاجعة الزوجة المتوفاة أو البهيمة.. لم يعش «فودة» ليرى «الحياة» تفر من بين أيادينا، و«الفكر» يهرب من رؤوسنا، ولم يشهد قانوناً يزج بالمفكرين خلف قضبان السجون برعاية كاملة من كافة مؤسسات الدولة!!.استشهد «فودة» برصاصة عمياء جاهلة، فلم يعانِ موتنا البطىء ونحن نسير مثل «دمى خشبية» موصوله بكيان مكهرب له حصانة دستورية، يكفر من يشاء ويمنح صكوك الغفران لمن يشاء.. لنجد فجأة أن «الدين والدولة» ملكية خاصة لمن يمتلك فتاوى «الزندقة والهرطقة» ويحكم بها مصر من الباطن!.لو كان «فرج فودة» بيننا الآن، لدخل معنا فيما سماه فى كتابه «الدائرة المفزعة»، وأكتشف أن أغلبية الشعب تحولت إلى دراويش ومجاذيب، يسيرون عمياناً خلف من يستغل جهلهم بالإسلام ويتلاعب بمشاعرهم الدينية ليحول عقولهم الصدئة إلى «ثروة» يجمعها من الفضائيات وبيزنس «الحج الفاخر»، وأن البعض اختصر المسافة بين الدنيا والآخرة بحزام ناسف سعياً خلف «وعد» من «أمير الجماعة» بـ«حور العين».. لو عاش «فودة» أنفاساً أطول من مفعول الرصاصة التى اغتالته لمات مثلنا -كل يوم- ونحن نرى من يؤسسون لـ«دين جديد» على مقاس مصالحهم وشهواتهم ومناصبهم.. من حولوا الإسلام إلى «كهنوت»، وفرضوا أسلحتهم الجديدة ليركع الجميع فى محرابهم «سمعاً وطاعة»!.الآن -يا صديقى- أصبحت قاعدة: «لا تجادل ولا تناقش» هى الدستور والقانون، وأصبح «الإسلام» يناقش فى الغرف المصفحة، بعيداً عن العامة، ولم يعد من حق أحد أن يستفت قلبه، ولا أن يرجح رأى فقيه على آخر.. أصبح للإسلام وجه واحد وعمامة واحدة ودولة «فاشية».. لها ميليشيات من كتائب «الحسبة» وجماعات «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».. دولة تكفر الأقباط وتحتقر المرأة وتخاصم المنطق والعقل.. وتزرع رجالها فى المؤسسات الرسمية.. لأنهم وكلاء الله على الأرض!.لقد قُتل «فودة» بفتوى من شيخ الإرهاب «عمر عبدالرحمن»، وفى شهادة الشيخ «محمد الغزالى»، فى أثناء محاكمة القاتل وصف الغزالى فودة «بالمرتد» «وأنه (ويقصد فرج فودة) مرتد «وجب قتله»، وأفتى «الغزالى» بجواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتئاتاً على حق السلطة، ولكن ليست عليه عقوبة، وهذا يعنى أنه لا يجوز قتل من قتل «فرج فودة» حسب تعبيره (!!).هكذا أصبحنا جميعاً نواجه مصير «فرج فودة»، ومن حق أى جاهل أو أحمق أو مأجور أن يقيم بنفسه «الحد عند تعطيله».. دون عقوبة.. لأنه يطبق ما يرون أنه «شريعة الله».. بينما هى شريعة الغاب!.لو كان بيننا «فرج فودة» لعرف أن نبوءته قد تحققت، وأن الأرض قد تحولت إلى خريطة دم، تختلط فيها دماء الأقباط بالمسلمين والمدنيين بالعسكريين.. وأن الصراع على «السلطة» لم يحسم حتى الآن.لقد تربى بداخل كل مسلم «داعشى» يظهر عند الضرورة، يتحرش بالسافرات أو يهتك أعراض الأجنبيات أو يفجر الكنائس.. ولديه تابوت مرصع بفتاوى القتل والترويع والتهجير، (من كتب التراث)، لا ينضب.. وخلفه «جيوش نظامية» تحارب فى اليمن وسورية وليبيا والعراق دفاعاً عما يسمى «دولة الخلافة الإسلامية»، «داعش»!.«فرج فودة» الذى اغتاله شاب لا يقرأ ولا يكتب بفتوى سماعية، سقط فى ميدان الدفاع عن حرية الفكر والتعبير والمعتقد، وحرية الإبداع الثقافى والفنى، ودفع حياته ثمناً حتى يكون المستقبل للتنوير والعقلانية وللخلق والإبداع وليس لجيوش الردة والظلام والعودة إلى الوراء.. لكن بكل أسف تسيّدت خفافيش الظلام.. وأصبحنا جميعاً نواجه نفس مصيره دفاعاً عن «مدنية الدولة».. ولا تتبقى، بعد كل فتاوى التكفير، إلا كلمة واحدة لنلحق به: «دوس على الزناد»!!.