لقد وقعت تحولات استراتيجية عميقة فى منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات القليلة الفائتة؛ وهى تحولات سيكون لها أكبر الأثر فى مستقبل المنطقة والعالم.
لا تقتصر تلك التحولات على سقوط عدد من الأنظمة التى كان يُظن أنها منيعة، أو انهيار بعض الدول التى ترسّخت مركزيتها لعقود، ولا المد الثورى الذى هيمن على تفاعلات المنطقة فقط، لكنها امتدت أيضاً لتشمل ما اُصطلح على تسميته بـ«الصحوة الإسلامية».
بزغ ما عُرف بـ«الصحوة الإسلامية» مع السبعينات الفائتة، وبعدما نجح فى إعادة تشكيل الواقع الاجتماعى والطقوسى، امتد أثره للجانب السياسى، حتى ظن البعض أننا أصبحنا فى زمن «الإسلاميين».
فغداة اندلاع الانتفاضات فى عام 2011، كانت المنطقة العربية تبدو كأنها فى طريقها لتصبح «بحيرة إسلاموية»، تُستعاد فيها أحلام «الخلافة»، وتظهر فى ثناياها إرهاصات «الإمبراطورية» الموعودة، وتتحقق بسببها أمنيات «الخلاص»، والعودة إلى «قيادة العالم وأستاذيته»، بمقومات «القدرة والورع».
كانت تلك أزهى عصور «الإسلاميين» بحق؛ إذ لم يكونوا أقرب إلى تحقيق أهدافهم فى السيطرة والحكم والتأثير من هذا العهد بالذات، منذ انهيار الخلافة العثمانية.
لماذا تسيّد «الإسلاميون» المشهد آنذاك؟
ستة أسباب رئيسية حملت «الإسلام السياسى»، بتنويعاته المختلفة، إلى صدارة المشهد، قبل سبع سنوات؛ إذ استطاع «الإسلاميون» أن يفوزوا فى عدد من الانتخابات التى اعتُبرت آنذاك «نزيهة»، وأن يشاركوا فى الحكم بفاعلية فى عدد من البلدان، وأن يهيمنوا على الحراك المجتمعى، وأن يُسخّروا قطاعاً كبيراً من وسائل الإعلام الجماهيرية لخدمة قضاياهم ومصالحهم.
يكمن السبب الأول فى إخفاق عدد من الأنظمة العربية التى أطاحتها الانتفاضات، أو زعزعت مراكزها، فى مواجهة التحدى الإسرائيلى، وحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً ومشرفاً.
لقد بنى «الإسلام السياسى» جزءاً كبيراً من تمركزه الاستراتيجى فى الواقع السياسى والمجتمعى العربى والإسلامى على معاداة إسرائيل والانتصار للشعب الفلسطينى، ولطالما استثمر الخيبات العربية فى هذا الصدد من أجل كشف «عوار الأنظمة وتهافتها»، وقدّم نفسه باعتباره «المُخْلِص» بتسكين الخاء، و«المُخَلّص» بفتحها، فى آن واحد.
أما ثانى تلك الأسباب، فيكمن فى إخفاق معظم تلك الأنظمة أيضاً فى قضية التنمية، والقدرة على تطوير الاقتصادات القومية، بما يصب فى تعزيز الدخل، وتعظيم الموارد، وتحسين حالة المعيشة للملايين من أبناء الشعوب العربية.
وكان السبب الثالث وراء هذا الصعود «الإسلامى» متمثلاً فى النزعة الاستبدادية، وشمولية الحكم، فى الدول التى شهدت صعوداً لحركات «الإسلام السياسى»؛ إذ قدم «الإسلاميون» أنفسهم للجمهور باعتبارهم أعداء للديكتاتورية، ومخلصين للديمقراطية، وراحوا يتلاعبون بالتأويلات والاجتهادات، من أجل سد الفجوات بين مصطلحى «الشورى» و«الديمقراطية»، وتبرير انخراط بعضهم فى الانتخابات، بعدما كانوا يُكفّرون من يأخذ بها كآلية لتداول السلطة.
أما السبب الرابع فيتعلق بتصاعد أثر العاطفة الدينية بين قطاعات مؤثّرة من الجمهور العربى، وهو التصاعد الذى لم ينقطع عن تراث ما عُرف بـ«الصحوة الإسلامية»، التى ازدهرت، بحسّها التقليدى، وسمتها الطقوسى، فى عدد كبير من البلدان العربية، اعتباراً من عقدى السبعينات والثمانينات من القرن الفائت.
استثمر «الإسلاميون» هذه العواطف، ولعبوا على أوتارها، واستطاعوا من خلالها أن يجذبوا قطاعات كبيرة من المحايدين، وحتى الموالين للأنظمة العلمانية، إلى صفوفهم، بعدما اجتهدوا، بمساعدة المنصات الإعلامية النافذة، فى الخلط بين الشعور الدينى والموقف السياسى؛ وهو الأمر الذى ظهر جلياً فى الانتخابات والاستفتاءات، حينما تم الربط بين التصويت فى اتجاه معين و«إرضاء الله» و«نصرة الإسلام»، و«دخول الجنة».
يتعلق السبب الخامس بالبعد الدولى؛ إذ ظهر بوضوح أن ذلك الصعود لم يكن بمعزل عن توجّهات وتدابير وخطط غربية.
لقد ظهرت وثائق، وتكشّفت وقائع، تشير بوضوح إلى دعم غربى قوى وصلب لحركات «الإسلام السياسى» فى عدد من بلدان المنطقة، أو على أقل تقدير عدم ممانعة فى وصول تلك الحركات إلى سدة الحكم، مع غض البصر عن مرتكزاتها الاجتماعية والأيديولوجية التى تتصادم مع وجهة النظر الغربية، خصوصاً فى مجال التعامل مع الأقليات، أو المرأة، أو ملفات الحريات وحقوق الإنسان.
أما العامل السادس، فيتصل بالبعد الإقليمى؛ إذ لم يكن لهذه الحركات أن تحقق هذا الصعود من دون دعم إقليمى حصلت عليه تحديداً من تركيا وقطر، وقد اتسع هذا الدعم ليشمل المال، والسياسة، والعمل الاستخبارى، والسلاح، والأهم والأخطر من كل ذلك... الإعلام.
ومع انقضاء العام الأول على الانتفاضات، كان «الإسلاميون» قد هيمنوا على 70% من مقاعد البرلمان فى مصر، وأصدروا دستوراً يعبر عن مصالحهم ومواقفهم، ووصلوا إلى سدة الرئاسة، كما فازوا فى الانتخابات البرلمانية بتونس، وصاروا أغلبية مهيمنة على القرار السيادى، وسيطروا على الأوضاع فى ليبيا، وصاروا رقماً صعباً بحيث لا يمكن الحسم على المستوى الوطنى من دون مراعاة مصالحهم وانشغالاتهم، وفازوا بالانتخابات فى غزة، وتعزّزت حظوظهم فى الأردن، كما وصلوا إلى الحكم فى المغرب، بعد فوزهم بالانتخابات البرلمانية فى نوفمبر 2011.
يبدو اليوم، وبعد مرور سبع سنوات، أن كل ما فعله «الإسلاميون» آنذاك راح سدى، وأن هذا الصعود عصفت به الرياح.
فلماذا انهزم «الإسلاميون»؟
سيمكن تقصى أسباب الهزيمة عبر إعادة فحص أسباب الصعود؛ إذ لم يكن ما فعله «الإسلاميون» عندما وصلوا إلى السلطة أو اقتربوا منها سوى تكريس للأوضاع والمواقف التى ساعدت على وجودهم وصعودهم.
لم يستهدف «الإسلاميون» الذين وصلوا إلى مفاصل السلطة أو تحكموا فيها إسرائيل أبداً، بل راحوا ينسجون علاقة معها قائمة على «المودة والتعاون والاعتراف الكامل»، أو هذا على الأقل ما ظهر من رسالة بعثها الرئيس الإخوانى محمد مرسى إلى نظيره الإسرائيلى آنذاك شمعون بيريز.
حدث إخفاق واضح فى ملفات التنمية بطبيعة الحال، وظهر أن «الإسلاميين» لا يمتلكون طبقة من الكوادر السياسية والتنفيذية القادرة على قيادة عملية التنمية، لكن الأخطر من ذلك أنهم أظهروا ميلاً للاستبداد والعنف والحكم الشمولى فاق فى بعض الأحيان ما فعله أسلافهم العلمانيون.
وبموازاة تغير واضح فى التوجّه الغربى الداعم لهم، بعد انكشاف تهافت قدراتهم، استطاعت دول عربية رئيسية أن تحد من قدرة بعض الدول الإقليمية على دعم حركات «الإسلام السياسى»، عبر سياسات فاعلة وحاذقة.
أما العاطفة الدينية، فقد تكفل بتقويم أثرها ما فعله تنظيم «داعش» حين هيمن على الأوضاع فى مساحات شاسعة فى سوريا والعراق، وما فعله تنظيم «الإخوان» حين هيمن على مفاصل الحكم فى مصر.
لقد اكتشفت القطاعات الغالبة من الجمهور زيف الربط بين العواطف الدينية النبيلة وبين الحكم والسياسة، وهو مكسب كبير لم يكن ليتحقق من دون التكلفة الموجعة الفادحة التى تكبّدتها المنطقة بسبب صعود «الإسلاميين».
لم تكن «الصحوة الإسلامية» صحوة حقيقية تستهدف إعلاء قيم الإسلام النبيل، لكنها كانت مطية لجماعات مأفونة غادرة أرادت استخدام الدين لكى تصل إلى الحكم.