المفوضية العامة للانتخابات تلقت 1900 شكوى تتعلق بنزاهة الانتخابات البرلمانية «12 مايو 2018»، حيدر العبادى رئيس الحكومة شكل لجنة لحضور عملية محاكاة لآليات التصويت والفرز والعد الإلكترونى التى تم استخدامها، خبراء البرمجيات اخترقوا النظام، وغيّروا النتائج 3 مرات خلال 30 دقيقة، رفعوا توصياتهم للبرلمان، فألغى نتائج انتخابات الخارج ولجان النازحين، وقرر إعادة الفرز والعد يدوياً، طالب بتحريك دعاوى ضد المتلاعبين، جمد عمل رئاسة المفوضية، وأدرج أعضاءها بقوائم منع السفر، وانتدب قضاة لإدارة أعمالها.. المفوضية رفضت الإذعان، وطعنت على القرارات لدى المحكمة الاتحادية لسريانها بأثر رجعى خلافاً للدستور، وطالبت بوقف القرارات لحين البت فيها.. فؤاد معصوم رئيس الجمهورية تضامن فى الطعن، فبدأ النواب جمع توقيعات لإقالته، بشبهة الدفاع عن «الاتحاد الوطنى الكردستانى»، الذى ينتمى إليه، والمتهم بممارسة عمليات تزوير ممنهجة بالسليمانية.
فى اليوم التالى لقرارات البرلمان، اشتعلت النيران فى مخزن يضم الأجهزة الإلكترونية التابعة للمفوضية، وبعض صناديق الاقتراع الخاصة بأصوات لجان الرصافة ببغداد، التى تضم مدينة الصدر، معقل الصدريين، «ثلاثة ملايين نسمة».. أتت على كل الأجهزة، لكنها لم تؤثر على النتائج، لوجود نسخ احتياطية بالمكتب الوطنى، ومكتب الرصافة.. لجنة التحقيق أكدت أن الحريق «متعمد»، والهدف، تعديل النتائج، بما يعيد لطهران الغلبة فى البرلمان، ويمنع تشكيل حكومة غير طائفية، تعزز سيادة واستقلال العراق، وتقلص نفوذها.. الاتهامات تطال الجميع، أولهم: المفوضية التى تعرضت للتسييس، نتيجة انتخاب أعضائها بمعرفة نواب البرلمان، ما أخضعها لمعايير المحاصصة الحزبية، والفساد الإدارى.. الثانى: الخاسرون من النواب، وعلى رأسهم سليم الجبورى رئيس البرلمان، الذى سارع بطلب إعادة الانتخابات فور نشوب الحريق، وكأنه وجد المبرر.. الثالث: القوى التابعة لإيران بزعامة نورى المالكى، الذى طالب بإلغاء أصوات الصناديق التى كانت بموقع الحريق، وتخص 40 مقعداً، فاز منها الصدر بـ17، ما يعنى حرمانه من تصدر القوائم.. اتهامات أتباع إيران للتيار الصدرى مجرد لغو، فلا مصلحة لفائز فى إلغاء النتائج، إضافة إلى تزامن الحريق مع محاولة فضحه بتفجير حسينية صدرية ببغداد، وكشف مخزن الأسلحة بداخلها، رغم أنها ظاهرة معتادة، الصدر دعا الداخلية لشن حملة لنزع السلاح تبدأ بمدينته.. محكمة الرصافة أوقفت أربعة متهمين، ثلاثة منهم من منتسبى الشرطة، والآخر موظف بالمفوضية. أمريكا استقدمت إيران بعد احتلالها للعراق، باعتبارها إحدى أدواتها بالمنطقة، لتضمن تهدئة المقاومة الشيعية التى قادها الصدر، ولمواجهة التمرد السنى.. إيران حولت العداء العربى للفرس إلى صراع شيعى سنى، قسم العراق، وأشعل نيران الحروب بالمنطقة.. عندما خاض الصدر الانتخابات متحالفاً مع العلمانيين والشيوعيين ثارت إيران، وأكد مسئولوها: «طهران لن تسمح بحكومة علمانية فى بغداد».. فوز الصدر تزامن مع ما يتعرض له نفوذها بسوريا واليمن من استهداف ممنهج، ما أثار المخاوف من نجاح مخطط طردها من المنطقة، وانحسارها داخل حدودها، بعدما تصورت أن «القمر الشيعى» أضحى قاب قوسين أو أدنى من التحقق.. تفاهمات الصدر مع السعودية والإمارات أثارت قلقها، ورفض أمريكا أى دور للحشد الشعبى، ذراعها العسكرية بالعراق، يظل هاجسها الرئيسى.. إيران تعيش أياماً عصيبة بمنطقة تعج بالمتغيرات.
تداعيات استفتاء استقلال الإقليم الكردى لا تزال تتردد أصداؤه، الأكراد يشكلون الوجه الآخر من الأزمة.. رغم الوساطة الأمريكية، فشلوا فى الاتفاق على خوض مناورات التشكيل الحكومى بوفد مشترك، الخلافات بينهم عميقة؛ المحاصصة الطائفية أسندت منصب رئيس الجمهورية لكردى ينتمى للاتحاد الوطنى «طالبانى»، مقابل إسناد منصب رئيس الإقليم الكردى للحزب الديمقراطى «برزانى»، وفاة طلبانى أحدثت انقساماً وفراغاً داخل الاتحاد، ويستحيل ترشيح رئيس من حزب برزانى، لأن إيمانه بانفصال الإقليم يسقط شرط حرصه على وحدة العراق وصيانة الدستور، ولم يعد هناك من حل سوى إعادة ترشيح فؤاد معصوم رغم شيخوخته.. الجبهة السنية أيضاً تتعرض لأزمات؛ انقسمت إلى قوائم متعددة، وذاب بعضها داخل القوائم الشيعية، طمعاً فى منصب بالمحاصصة.. رئاسة البرلمان تذهب للطائفة السنية، الجبورى فشل فى الانتخابات، ولا توجد قيادات سنية تسد الفراغ سوى خالد العبيدى وزير الدفاع السابق، وأكثر المرشحين أصواتاً بالموصل، كفء إدارياً، ونزيه، فضح الصفقات الفاسدة لبعض السياسيين أثناء استجوابه فى البرلمان ٢٠١٦، ولكن هل تسمح التوازنات السياسية، والمصالح التى يفرضها أمراء الفساد، بتصعيده؟!.
أزمة الانتخابات العراقية ترجع فى أحد جوانبها إلى الانقسام الحاد داخل البيت الشيعى.. قاسم سليمانى قائد فيلق القدس حاول إقناع الصدر بتشكيل حكومة وفق قواعد المحاصصة التقليدية، وترشيح رئيسها من داخل القوى الشيعية الخمس «سائرون، النصر، القانون، الفتح، والحكمة»، التى جمعت 188 مقعداً، لكن الخلافات بينهم عميقة، بل وامتدت إلى الموقف من إيران ذاتها.. نورى المالكى رئيس حزب الدعوة العراقى الموالى لطهران، رفض خوض الانتخابات بقائمة واحدة مع العبادى، رئيس المكتب السياسى للحزب، ويجهر بمعارضة عودته رئيساً للوزراء، بل ويرشح بديلاً له من خارج الحزب.. سليمانى وجه هادى العامرى قائد «ميليشات بدر الشيعية»، للاقتراب من الصدر، وقيس الخزعلى قائد «ميليشيات عصائب أهل الحق» للتضامن مع المالكى، الاثنان يشكلان عصب قوات «الحشد الشعبى»، ذراع إيران العسكرية بالعراق، لو شكل الصدر الحكومة يستدرجه العامرى نحو إيران، وإن شكلها المالكى فكتلته تدعمها ميليشيات الخزعلى، وفى كل الأحوال تضمن إيران أن يصبح «الحشد» شريكاً فى السلطة.. رفض الصدر التحالف مع العامرى كان أحد ثوابته السياسية قبل ظهور النتائج، لكنه تحالف معه، ليتجاوز الأزمة، ويفسد مخطط سليمانى، إضافة لإنجازه تحالف «الوطنية الأبوية» مع إياد علاوى «قائمة الوطنية 21 مقعداً» والحكمة «عمار الحكيم 19»، ليصبح الأقرب لتحقيق نصاب الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة.
الصدر خلق قناة اتصال مع طهران بمرونة وحكمة، وطمأنها إلى عدم استهدافه للحشد الشعبى، رغم قناعته بأنها تسعى لإخضاع شيعة العالم لولاية الفقيه، ولمرجعيتها فى «قم»، السيستانى المرجع الشيعى الأعلى بالنجف الأشرف يرفض توظيف الطائفية لإخضاع العراق لبلاد فارس، وهو نفس إيمان الصدر.. هذا التوجه العروبى، فى ظل الاستقطاب الراهن، يطمئننا إلى مضاعفة حصة التيار الصدرى فى حالة إعادة الانتخابات.. ما يحدث بالعراق ليس صراعاً على مقاعد البرلمان، وإنما صراع على الهوية، بين الساعين لتسليمه للفرس، وأصحاب التوجه العروبى.. فلندعو لإخواننا العروبيين بالنصر.