تفاجئني دائمًا كمية الكلمات المشتركة بين اللغات، نجد في اللغة العربية الكثير من الكلمات المشتقة من لغات أخرى، كلمات ذات أصول فارسية، تركية، سوريانية، عبرية، أو حتى اللغات المصرية القديمة كالهيروغليفية أو الديموطيقية.
بعض الكلمات اندمجت مع لغتنا حتى أن الكثيرون لا يعرفون أصلها الأعجمي، وتم معاملتها بقواعد اللغة العربية من حيث الحركات والجمع والتثنية والإعراب، فقط تم منع معظمها من الصرف.
هذا بخلاف الكلمات القادمة من الشمال حيث اللغة اللاتينية ومشتقاتها.
على الجانب الآخر نجد آثار اللغة العربية أيضًا في اللغات الأخرى، بل إن هناك الكثير من الكلمات التي ننطقها باعتبارها كلمات إنجليزية أو فرنسية وهي في الأصل كلمات عربية اختلف نطقها فقط باللسان الأوروبي، وهناك بعض الأمراض التي أكتشف أن اسمها الذي يبدو لاتينيًا هو في الأصل اسم عربي. هذا بالإضافة إلى كم كبير من الكلمات المشتركة مع اللغة الهندية والأوردية والكشميرية.
ساهم في ذلك التجارة والهجرة بين البلدان وتوسع الدولة الإسلامية قديمًا وتقدمها العلمي الذي جعل أساسيات العلوم حينذاك تنقل من العربية، ثم جاء الإحتلال ليفرض لغته على الشعوب، ثم صارت معظم العلوم تدرس بلغة من يقود سباق العلم مما جعل طوفان من مصطلحات أجنبية يجتاح حياتنا إجباريًا، لدرجة أن هناك كلمات نستخدمها ولا ندري أصلًا أن لها مرادفًا في اللغة العربية.هذا بالإضافة من موجة استخدام اللغات الأجنبية -بدون أي سبب لذلك- من باب التحذلق وادعاء الثقافة والانتماء للطبقة الأرستقراطية وكأن استخدام اللغة العربية صار فقط لطبقات المجتمع السفلى.
كل هذا يبدو مقبولًا ولكن في العقود الأخيرة ظهر مرض جديد في جسد اللغة العربية، كلمات ليس لها معنى وتنتشر بسرعة بين الشباب حتى تصير واقعًا، ثم يملون منها لتظهر كلمات أخرى، أو قد يستخدمون كلمات في معنى غير معناها، وتنتشر الكلمة بالمعنى الجديد بينهم وما يلبثوا حتى يملون منها. فنجد أن كلمات مثل ( يشتغل، يزاول، حوار ، زبون.....) تستخدم بمعنى يختلف عن معناها الأصلي، الجيد في الأمر أنهم يملون بسرعة ويبحثون عن تعبير أكثر غرابة.
مثال على ذلك قصة حدثت معي .
كنت عزمت اثنين من أصدقائي على طعام الفطور في أحد أيام رمضان، وبعد الفطور مباشرة انقطعت الكهرباء، وبينما أنا أبحث محرجًا في الظلام الدامس عن شمعة إذا بأحد صديقيّ يقول: (ماتجيب لنا بلادوس)، لم أفهم معنى الكلمة فسألته عما يعني، فأجاب الصديق الثاني مازحًا (يعني كنافة أو قطايف أو أي حاجة نحلّي بيها)، وبينما أوضح لهذا الصديق الـ"أشعب" أنني سأحضر له ما يريد بعد أن أجد شمعة شرح لي الصديق الأول أن هذا لم يكن قصده وأن البلادوس هو مصباح متنقل له سلك طويل يستخدمه الميكانيكي لرؤية أجزاء السيارة الداخلية.
بعد أن قضينا الليلة في المزاح عن البلادوس في اليوم التالي قبل أن أنهي عملي اتصلت بأحد الصديقين والذي كان يعمل في مستشفى أخرى فعرفت أنه سيتأخر في المستشفى وسيضطر للإفطار هناك، فقلت له أنني سأنهي عملي وآتي لأفطر معه ثم قلت ( أنت عليك الإفطار وأنا سأحضر معي البلادوس).
ومن هنا بدأت السلسلة، سمعتني ممرضة فسألتني عن معنى البلادوس فرفضت مازحًا أن أخبرها، فازداد فضولها وأثارت الأمر مع طاقم التمريض والفنيين، لم يعرف أحد معناها، سمعهم مرافق لأحد المرضى فقال لهم معناها، لكن الممرضة سخرت منه وقالت: البلادوس شيء يؤكل، لقد سمعته للتو يقول أنه سيحضره على الفطور.
وانصرفت ضاحكًا دون أن أشفي فضولهم، اشتريت البلادوس من محل الحلويات ثم وصلت المستشفى الآخر مع أذان المغرب فوجدت سكرتير القسم يستقبلني سائلًا: أين البلادوس؟ لقد قال الدكتور محمد أنك ستحضر معك بلادوس.
المشكلة أنهم بعد عن عرفوا ما نقصده بالبلادوس جرت الكلمة على ألسنتهم وانتشر استخدامها لفترة طويلة بالمعنى الجديد ونسى الجميع أنها كانت مزحة. ومع أي احتفال أو مناسبة في كلا المستشفيين صرنا نسمع "هل هناك بلادوس؟"، "من عليه إحضار البلادوس؟"، "لازم تيجي، هيكون فيه بلادوس".
هكذا يبدأ الأمر في انتشار الكلمات الغريبة والمعاني البديلة في مجتمعنا، والحمد لله أنها مع الوقت تندثر مرة أخرى.