رؤية بسيطة وسريعة لمناهج التاريخ بعد التطوير والتطوير والتطوير. لقد تفتق ذهن واضعى المناهج التاريخية للأطفال فى المرحلة الابتدائية عن طريقة فريدة من نوعها، وهى تدريس الحقبة التاريخية بواسطة «أحداث وشخصيات». كنت أساعد حفيدى العام الماضى فى هذه المادة «الرزلة»، وكانت عن الحقبة المصرية القديمة، وبها عدد من الأسطر عن أحمس ثم عن حتشبسوت ثم تحتمس وإخناتون ثم رمسيس الثانى، وبالطبع لا بد من حفظ هذه المعلومات القصيرة وترديدها مثل الببغاوات وحفظ الأسئلة والأجوبة دون فهم أو تصور للحقبة التاريخية ولا لزمنها ولا للتسلسل التاريخى الذى يربط الأزمنة ويؤدى للفهم لا للحفظ ثم النسيان السريع. ولفت نظرى فى العام الماضى، وكان منهج السنة الرابعة الابتدائية، جملة غاية فى الخطورة وهى أن «المصريين القدماء عبدوا العجل والجعران»، وذلك لخلق جيل صغير من الدواعش يكبر ليحطم الأصنام «وهو منه تاريخ ومنه إرهاب». وهذا العام كان مقرر التاريخ للسنة الخامسة الابتدائية كالآتى: العصر البطلمى.. بطليموس الأول، ثمانى معلومات للحفظ لا للفهم، مع العلم أن الإسكندر نفسه غير موجود لأنه كان موجوداً فى العام الماضى.. ثم كليوباترة السابعة، أربع معلومات عنها وعن زواجها من القيصر، ثم انتحارها بعد معركة أكتيوم البحرية، ثم أسباب سقوط دولة البطالمة والاحتلال الرومانى وأشهر شخصياته «أكتافيوس» وقسطنطين الأول الذى اعترف بالمسيحية وأنهى عصر الاضطهاد، ثم نبذة عن بعض آثار الرومان فى مصر، ومنها عمود السوارى (وهو أكبر نصب تذكارى فى العالم)، «ما أعرفش إزاى الصراحة».. وأسباب انهيار الحكم الرومانى فى مصر، والسبب الأول وهو مثير للغرابة (حرم الرومان المصريين من الاشتراك فى حكم بلادهم)!
والسؤال للسادة المطورين: مَن مِن الجنسيات التى احتلت مصر أشركت الشعب المصرى فى الحكم؟ ومع العلم نحن نتحدث عن عام 641 ميلادياً تقريباً.
ثم ندخل على الحقبة المسيحية، وفيها ظهور المسيحية فى مصر والقديس مرقص ثم الإمبراطور «دقلديانوس» الذى عُرف عصره بعصر الاضطهاد وسمى بعصر الشهداء الذى بدأ به التقويم القبطى، رغم أن الحقيقة أن عصر دقلديانوس كان عصر الصراع المذهبى بين كنيسة روما والكنيسة المصرية بالإسكندرية، ثم اعتذر بعد ذلك للمصريين وأقام «عمود السوارى». وكما نرى، التسلسل مفقود، والعلاقة بين الأثر والحدث غير موجودة.. لا شىء سوى حفظ الجمل وترديدها عن ظهر قلب دون وعى بالحدث ولا إيحاء بالفترة الزمنية، وأنا شخصياً التبس علىّ الأمر، مَن أسبق مِن مَن؟ وإذا كان قسطنطين الأول هو الذى أنهى عصر الاضطهاد بعد دقلديانوس فلماذا يُذكر قبله؟ ولكنها بدعة «أحداث وشخصيات» ودروس خصوصية لزوم تحفيظ الأطفال لهذه اللعبكة. والفصل الدراسى الثانى يبدأ بظهور الإسلام ومولد الرسول عليه الصلاة والسلام وحياته قبل البعثة وبعدها والهجرة والغزوات، وهى وإن كانت مبتسرة ومختصرة، لكنها تؤدى الغرض والسلام، ثم نبذة عن «بعض» الخلفاء الراشدين، وهما اثنان فقط، أبوبكر وعمر بن الخطاب، وأيضاً بنفس الطريقة «الكبسولية»، ثم ندخل على فتح مصر وإنجازات عمرو بن العاص وهى سبعة: بنى أول عاصمة إسلامية فى أفريقيا وهى الفسطاط.. أنشأ أول مسجد إسلامى ومقياس النيل وأعاد حفر قناة قدماء المصريين، ثم تتوالى الشخصيات والأحداث: أحمد بن طولون، وأهم أعماله مدينة القطائع.. مسجده المشهور.. أول بيمارستان بالمجان فى العصر الإسلامى.. ثانياً: الدولة الإخشيدية ومؤسسها محمد بن طغج الإخشيد، وبالطبع كانت الصعوبة الشديدة فى نطق الاسم قبل حفظه وكتابته رغم ضآلة قيمة الإخشيد الذى يُكتب عه أنه مؤسس الدولة الإخشيدية وصد هجمات الفاطميين.. ثم يأتى المعز لدين الله الفاطمى بعد فوضى الإخشيد وضعف دولته، ويأتى جوهر الصقلى ويبنى القاهرة، ثم يأمر المعز ببناء الجامع الأزهر، وينقل الخلافة الفاطمية من المغرب إلى القاهرة، ويسأل الصغير: «يعنى إيه خلافة؟».. ثم خمسة سطور عن احتفالات الفاطميين.. ثم فوراً ندخل على صلاح الدين الأيوبى، ست معلومات تُحفظ «صم».. ثم معلومات عن الصليبيين وأسباب الحروب الصليبية وتأسيس الإمارات الصليبية ثم موقعة «حطين» وتحرير بيت المقدس ومحاولة الصليبيين استرداد بيت المقدس، ثم قفزة طويلة على سيف الدين قطز والمغول ومعلومات عن المغول وجنكيز خان وهولاكو ومعركة «عين جالوت» عام 1260 ميلادياً.. إذن وضعنا أمام الأطفال ما بين عمر العاشرة والعاشرة والنصف شخصيات وأحداثاً من أيام الإسكندر منذ 300 عام قبل الميلاد، وأخذنا فى السرد لعام 1260 ميلادياً، أى اختصار أحداث وشخصيات عبرت على مصر فى مدة 1560 عاماً، فى عدد ضئيل من الصفحات وأسطر معدودة خصيصاً للحفظ.. وفى النهاية عزيزتى الأم أو الأب أو المدرس، حاولوا أن تسألوا الطفل الصغير عن عين جالوت وحصن بابليون وحطين ومئذنة ابن طولون الخارجية والفرق بين جنكيز خان وهولاكو، وحاولوا أن يكتب الطفل بمفرده ابن طغج الإخشيد وسيف الدين قطز و«دقلديانوس». نفسى أعرف من هو المطور الجهبذ الذى ابتدع تدريس التاريخ بواسطة اختراع الشخصيات والأحداث. والله العظيم وأنا فى هذا العمر أعجز عن حفظ كل هذه المعلومات القصيرة العقيمة، وهناك من لا يزال يسأل: لماذا يكره الأطفال والشباب مادة التاريخ، وآدى اللى أخدناه من التطوير.. عندى حالة تشاؤم رغم كل المجهود الذى يبذله الدكتور طارق شوقى الذى أظن أنه سيقع على عقبة المناهج وينهار، وأظن أن التطوير مستمر ومتوغل ومنتشر، وربنا يلطف بأحفادنا.