أصبح من السهل على أى مقبل إلى الأراضى المصرية أن يلاحظ «نظرة القلق» التى تكاد تقفز من عيون معظم المواطنين بسبب التخوف من حالة «انفلات الأسعار» أكثر مما هى عليه أو على الأقل التهابها، إلى درجة أن أصبح الحديث عنها هو القاسم المشترك بين معظم إن لم يكن جميع المواطنين، سواء هؤلاء الذين تجمعهم جلسة فى أى مقهى شعبى حول «لعبة الطاولة» حيث يلقى أحدهم «زهرها» فربما يستقر على «رقم» يكون أعلى مما يتلقفه بيده من «خزانة مقر عمله» أول كل شهر..!!.. أو أولئك الذين اعتادوا اللقاء فى أحد فنادق «الخمسة نجوم» بعد أن يشعل أحدهم «سيجاراً فاخراً» ربما يؤدى الدخان المتصاعد منه إلى إغماء أحد ممن يشكلون أغلبية اعتادت على سماع تعبير «الخط الأحمر» الذى يحلو للحكومة تجميعهم خلفه، عندما يسمع قيمة ثمنه..!
حالة «القلق» التى سادت الأسواق خلال الفترة الماضية ولا تزال قد سيطرت على جميع المواطنين وأنهت مشكلة «الخرس الزوجى» داخل المنازل بينما أبدلت «السيدات» حوارهن الدائم حول أحداث المسلسل التليفزيونى بتوقعات ارتفاع الأسعار «والغلا والكوى».. فالجميع يشكون غير أن شكوى أغلب المواطنين لا تسمع لها صوتاً بعد أن «بُحت» أصواتهم من الصراخ، بينما جاءت شكوى «أهل الصفوة» بصورة عابرة ضمن أحاديثهم المسائية كدلالة فقط على أنهم لا يزالون ينتمون إلى المجتمع!! وعلى الرغم من أن الجميع كانوا فى انتظاره قبل عدة أشهر وفق إعلانات الحكومة المتكررة عن اعتزام إقراره، إلا أن قرار زيادة أسعار المحروقات «البنزين والسولار والبوتاجاز» -وإن كان الأصح تخفيض الدعم عنها- قد فاجأ الجميع الذين كانوا ينتظرون «قراراً أكثر حكمة وعدلاً» من خلال تطبيق نظام «كروت البنزين الذكية» -وفق سوابق تأكيدات الحكومة المتكررة- إلا أن وزير البترول المهندس طارق الملا فاجأ الجميع بالتراجع عن تطبيق النظام «التطبيق سيؤدى إلى وجود سعرين للسلعة الواحدة، مما يؤدى إلى عودة الاحتكار»..! هكذا قال.
يبدو أن الوزير قد أفاق بعد نحو سنتين على أن وزارته -التى يشغل الموقع الأول فيها- سواء كان موجوداً بها هذه الفترة أم لا قد أهدرت «ملايين الجنيهات» على إصدار «هذا الكارت»، بل والأغرب من ذلك أن الوزير نفسه كان قد أكد أكثر من مرة -وآخرها منتصف أبريل الماضى- «لن يُصرف لتر بنزين واحد خارج نطاق الكارت اعتباراً من شهر مايو الماضى»..! هكذا يكون الإهدار حقاً..!!!
على كلٍ فإن قرار «رفع دعم المحروقات نسبياً» ليس هو الأخير فى هذا المجال، فعلينا انتظار آخر فى العام المقبل وإن لم يتحدد موعده بشكل قاطع، قد جاء أشبه بـ«حجر» ألقى فى بحيرة السوق الداخلية ليرسم دوائر تكشف عن ثقافة بدأت تتأصل وتغرس أنيابها فى المجتمع وهى «ثقافة الانتهازية»، إذ يُتوقع أن يسارع أباطرة السوق إلى «رفع أسعار» السلع بزعم أن عمليات نقلها أصبحت تكلفهم الكثير بعد أن يديروا عملية حسابية خادعة بإضافة السعر الجديد للتر البنزين أو السولار على كل كيلو أو قطعة مما ينقلونها كما ولو كانوا ينقلونها منفردة ومتقطعة لتطول موجات ارتفاع الأسعار كل السلع، إضافة إلى أجور «الميكروباص والتوكتوك» التى يجرى إعادة تقطيع المسافات إلى عدة محطات بعد أن وجدوا أنفسهم فى مواجهة تحتم عليهم رفع أسعار سلعهم وخدماتهم لا لشىء سوى «الجشع والانتهازية» وقليل منهم من يستهدف فقط ملاحقة أسعار سلع أخرى يستهلكها باعتباره مواطناً يحتاج إليها لتقفز جميع الأسعار عالياً دون وجه حق إلى درجة تدخل معها السوق إلى دائرة تضييق حلقاتها لتخنق أصحاب الدخول المحدودة للغاية ولا أقول المحددة!!
وإذا سلمنا مرغمين بمنطق واقع السوق وأن لأصحاب الأعمال الخاصة أسلوباً فى تجاوز أزمة الغلاء من خلال فرض ما يحلو لهم من أسعار لمنتجاتهم أو بضائعهم أو الخدمات التى يقدمونها، فإن الأمر لا ينسحب على فئة الموظفين من أصحاب الدخل المحدد الذين لن يجدوا وسيلة لمواجهة ذلك سوى «فتح أدراج المكاتب لزوم تكلفة الشاى» أو فى أفضل الحالات -وإن كانت نادرة- اللجوء إلى «الحل الغاندى» إن صح التعبير، وهو الاستغناء عن كل ما لا يستطيع المرتب شراءه.. غير أنه حتى هذا الحل سيصبح محدوداً أمام مطالب الحياة اليومية، وإلا وجد المواطن نفسه مجبراً على العودة إلى عصر الكهوف لأنه وقتها فقط لن يجد نفسه مطالباً بسداد أية فواتير للكهرباء أو التليفون أو حتى إيجار الكهف!!
وإذا كانت الرغبة فى الكسب غير المشروع هى المظلة التى تجمع تحتها دائماً قوى الفساد بعيداً عن أعين أجهزة الرقابة، فإن واقع الحال يدفعنا إلى ضرورة إيجاد وسائل حاسمة لمواجهة غول الغلاء الذى ينهش معظم المواطنين وفرض حماية حديدية حول غير القادرين «وهم أصبحوا كُثر»، ولا نكتفى فقط بإعلان قائمة أسعار استرشادية قد يجد أباطرة السوق وسائل عدة للهروب من الالتزام بها على الرغم من العقوبات التى تعلنها الحكومة بشكل دائم بعد أن تعيد تكرار تأكيداتها بـ«أن فرض أسعار جبرية يتناقض مع مبدأ إطلاق حرية السوق».. وحتى هذه اللحظة لا أدرى إذا ما كانت الرقابة على الأسواق وضبط الأسعار وتوفير السلع الغذائية للمواطنين لا تزال من بين مهام وزارة التموين وجهاز حماية المستهلك أم أنهما قد تنازلا عنها سواء كان ذلك طواعية أم قسراً تحت شعار إعمال آليات السوق، وانتهاج سياسة العرض والطلب؟!.. فإذا كانت إجابة السؤال السابق بالإيجاب فليتقدموا جميعاً باستقالاتهم.. فهذا أفضل لهم.. ولنا بالتأكيد..!