فى حوار مع أحد سائقى سيارات النقل الجماعى الخاصة - التى يطلقون عليها «سيرفيس» - أيام حكم الإخوان.. وفى الوقت الذى اشتدت فيه أزمة نقص الوقود.. كان السائق يدعو الله جهراً أمامنا جميعاً.. ألا تنتهى تلك الأزمة أبداً..!
فى البداية ظننت أنه يكره الإخوان مثلى ومثل الكثيرين من الشعب ويتمنى سقوط حكمهم سريعاً.. ولهذا يتمنى أن تزداد فى عهدهم الأزمات..
هممت أن أتحفظ على رأيه النفعى الذى يرغب فى استمرار أزمة خانقة لمجرد صراع سياسى.. ولكننى تعجبت كثيراً حين شرح لى وجهة نظره.. والتى أثبتت لى أننى أُحسن الظن بالبعض.. ربما أكثر من اللازم!!
لقد فسر لى رغبته بأنه يحصل على وقود لسيارته من السوق السوداء بضعف الثمن.. ولكنه فى المقابل يحصل على أجر أعلى بثلاثة أضعاف من كل راكب معه!!
إنه يتكسب من الأزمة أكثر بكثير مما يخسر بسببها.. ولذا فهو يتمنى ألا تزول.. فمكسبه يعتمد على استمرارها!!
ما زلت أتذكر ذلك السائق الجشع - والذكى فى نفسه الوقت - كلما سمعت عمن يعانى من موجة الغلاء الحالية!.. فالأمر لا يتعلق بزيادة سعر السلع فحسب.. وإنما يتجاوزه إلى زيادة مكسب التاجر.. أى تاجر.. بل كل تاجر!!
منذ أن صدر قرار الحكومة برفع أسعار الوقود والمحروقات وأنا أحاول أن أراقب ما يحدث من زيادة مطردة على أسعار السلع والخدمات والمواصلات لأجد تناسباً لتلك الزيادة.. ولكننى أشعر بالإحباط الشديد كلما حاولت ربط سعر أى خدمة بالأخرى!!
إننا شعب يعانى من جشعه الذاتى.. فلا نحتاج لمن يسرقنا.. فنحن نفعل ذلك ببعضنا بكفاءة رائعة!
الأمر لا يتوقف عند سائق أعماه الطمع.. فالصورة تتكرر فى كل المستويات الاجتماعية..
أعرف صديقاً يعمل جراحاً قد صرح لى بأنه قد رفع من أجره بسبب ارتفاع أسعار المستهلكات الطبية والمحاليل.. ولكنه اعترف أن الزيادة فى ثمن كل ما يتكلفه لمريض واحد أقل من نصف المبلغ الذى رفعه!
وهناك مهندس ديكور من الأصدقاء قد اعترف أمام جمع غير قليل أنه قد رفع من أجره بنسبة تتجاوز بكثير قيمة الزيادة فى الخامات التى يستعملها!!
حتى الميكانيكى صاحب ورشة صيانة السيارات التى بجوار منزلنا قد رفع أجره للضعف تقريباً دون أن يتكلف شيئاً من جراء ارتفاع سعر الوقود من الأساس!!
المشكلة أنه فى ظل اقتصاد تم تعويمه بالكامل وأصبح خاضعاً لمعايير العرض والطلب.. لا تملك الحكومة آليات حقيقية لضبط الأسعار.. ربما تمكنت من تحديد تعريفة الركوب للمواصلات العامة.. وربما تحكمت بصعوبة فى أسعار السلع الأساسية.. ولكنها لن تتمكن من ضبط أسعار الحرف والأعمال اليدوية التى يستغل أصحابها الموقف ليزيدوا من نسب الربح دون داعٍ.. وبحجة أن «كل شىء زاد يا بيه.. إشمعنى إحنا».
الطريف أن المستهلك الذى يتحمل الزيادة النهائية فى الأسعار هو طرف منتج فى مكان آخر.. وبغض النظر عن نوع المنتج الذى يقدمه للمجتمع.. فهو يقوم بدوره برفع سعره على غيره ليتمكن من الوفاء بما يحتاج من مال.. وبزيادة أعلى مما يحتاج أيضاً.. لتتسع الدائرة.. وتصبح دوامة تلتهم الجميع داخلها!
إننا نعانى من أنفسنا قبل الآخرين.. نعانى من جشع وطمع أصبح متأصلاً فى نفوس هذا الشعب.. إنها الأزمة الحقيقية التى ينبغى أن نبحث عن علاج لها.. ربما قبل البحث عن حلول لأزمات الغلاء!
حذارِ.. فالوطن لم يعد يحتمل جشع أولاده.. لم يعد يحتمل أبداً!!