ما هذه المبالغة المتطرفة أو الأوفر أوفر بلغة السوشيال ميديا، التى حدثت على مستوى الأمة المصرية من ردود فعل عجيبة على ما حدث فى كأس العالم لكرة القدم 2018؟.. ما المفاجأة المذهلة الصادمة التى استوجبت رفع رايات السباب والاتهام والمطالبة بالعقاب وتعليق المشانق لاتحاد الكرة ولمدرب المنتخب وحتى اللاعبين والجمهور الذى سافر للتشجيع؟.. فيه إيه؟.. وبأمارة إيه؟.. هل كان المتوقع أن نعود بكأس العالم مثل كل مرة صعدنا فيها للتصفيات؟ على أساس أننا صعدنا هذه المرة مثل كل أربع سنوات؟ هل نسينا أن هذه هى المرة الثانية بعد 28 عاماً من الغياب؟ ما هذا اللامنطق؟ عام 1990 الذى نتغنى به إلى الآن، تعادلنا فيه فى مباراتين وهُزمنا فى الثالثة، ومع ذلك فرحنا واعتبرناه نصراً مبيناً، ونزلنا إلى الشوارع نحتفل بالتعادل مع هولندا بضربة جزاء مجدى عبدالغنى، الذى أذاقنا الذل حتى انفك النحس فى الأيام القليلة الماضية.. وانتظرنا أيامها الفريق فى طريق المطار، وأخذنا نهتف لـ«الجوهرى» ونحيى الأبطال العائدين، مع أنهم خرجوا مثلما خرجنا هذه المرة تماماً.. ما الفرق؟ بعد 28 عاماً من الغياب وبعد ثمانى سنوات من الفوضى التى كادت تودى بمصر كلها، وبعد أحداث الملاعب المحزنة التى استغلها المخربون، سواء فى بورسعيد أو فى غيرها، وبعد توقف الكرة تماماً، ثم عودتها بلا جمهور، وبعد تردى حال الأندية الكبرى التى يتعارك بعضها، والآخر يباع ويشترى، وبعد ثبات حال أغلب مدارس مصر التى بلا أحواش تصلح لممارسة أى رياضة، لتفرخ شباباً رياضياً يملأ النوادى.. والأهم بعد النقد الشديد للمدرب كوبر، ولطريقة اللعب، وهل تعمّد الرجل أن يلعب بطريقة تؤدى إلى الخسارة؟ وإذا كان قد تم تغييره بعد الصعود للكأس، هل كنا سنأتى بالكأس بعد تنحية كوبر؟ ببساطة هذه إمكانيات المدرب وإمكانيات اللاعبين وإمكانيات حال كرة القدم فى مصر.. لكن دعونا نبدأ من أولى خطوات الشحن التى غيبت العقول، ووضعت داخلها فكرة أننا عائدون بالكأس لا محالة، أولاً حشد رهيب للإعلانات، ولكل السلع، من أول المشروبات ومروراً بالفانلة، وانتهاء بالاتصالات والنت والموبايلات.. والجميع استعملوا اللاعبين والمذيعين، ونادى الجميع «شجع فريقك»، وغمرتنا هذه الإعلانات من قمة رؤوسنا حتى الأقدام فى التليفزيون والشوارع والنت والإذاعة والهواء والميه.
غسيل عقول بامتياز هو ما حدث لنا حتى طارت العقول وانتقلنا بالتفكير إلى منطقة بعيدة، وتابعنا سفر المشجعين وأعدادهم وأخبار المعسكر ومكانه ومواعيد المباريات، وقناة «هباب» التى فتحت لنا المشاهدة فى مبارياتنا فقط.
ثم جاءت الهزيمة الأولى وتلقيناها بمفاجأة غير متوقعة.. إزاى؟ ما أعرفش، ونسينا فجأة المباريات الودية ونتائجها المبشّرة بالخسائر، وعانينا الصدمة وقضينا ليلة سوداء، لأننا كنا مغيبين ومحلقين فى وهم الفوز على روسيا بلا أى مبررات.. ثم بدأت السوشيال ميديا فى العمل بهمة فى العكننة واختلاق المشاكل والمواقف والأكاذيب من الخيال.. النواب سافروا على حساب البرلمان، وتكلف النائب 200 ألف جنيه، وهم مائة نائب تكلفوا عشرين مليون جنيه من دم الغلابة، واللى بعده الفنانين، وهم عشرة بالتمام والكمال، تم دعوتهم من شركة الإعلانات، نحسوا الفريق، وشهم شؤم علينا.. أقاموا فى فندق اللاعبين، ولاعبوهم على المشاريب حتى الصباح، حتى فقدوا اللياقة، وتشتت تفكيرهم وأصابهم الحول فى أقدامهم، وشغلتهم ليلى علوى وفيفى عبده عن الملعب والكرة وكأس العالم، وصاحت الجماهير الواهمة بأن الفنانين مايسافروش، ولا تتم دعوتهم أصلاً، حتى انزلقت الناقدة المشهورة فى سب الفنانين بالشمامين والأنجاس والقوادين، وخرجت هى وغيرها على الشاشات، ليقرروا أن الفنانين ليس من حقهم السفر أصلاً، ولا بد أن يعتذروا للشعب الكادح على هذا الخطأ الفادح، لأنهم فئة غير شريفة تنتمى إلى طبقة دنيا من الشعب الشريف، مع أن -وعجبى- السيدة الناقدة أكل عيشها على قفا الفنانين.
حالة من الجنون والشذوذ الفكرى والتوقع غير المنطقى.. وطالت الشائعات اللاعبين الذين صوروا برامج طوال الليل فى غرفهم، والآخرين الذين استضافوا زوجاتهم وأطفالهم فى الفندق فأطاروا عقول اللاعبين، وظل اللت والعجن يملأ الكون المصرى، حتى وقفت الجماهير المصرية تسب اللاعبين فى روسيا فى مشهد مخزٍ ومؤسف ومتدنٍ.. ثم فتحت النيران على اتحاد الكرة الذى اتضح الآن فقط أنه فاسد، ومن زمان، ولا بد من محاكمته واستجوابه تحت القبة.. وتطوع كل من له منفذ إعلامى بتفسير ما حدث، سواء كان يفهم فى الكرة أم لا، وكان «فرح بلدى»، والكل تطوع بالنقوط.
انظروا حولكم.. خرجت كل الدول العربية المشاركة فى كأس العالم معنا، ثم الأفارقة «السنغال ونيجيريا»، ثم ألمانيا، الدولة التى حصلت من قبل على كأس العالم، وربنا سترها مع الأرجنتين فى الثوانى الأخيرة ولم يحدث لهم ما حدث معنا من جنان أزلى وتعليق المشانق والتجاوز والسب فى كل من نظم ودرب ولعب وشجع.. ما تاريخنا الكروى المجيد فى ملاعب كأس العالم حتى ننجرف إلى هذا العصاب القهرى والبكاء والنواح وسب البلد باللى فيها.. بأمارة إيه؟ أفيقوا يرحمكم الله.